قصيدة التفعيلة... و«حراس الأُسُس»!
معلوم أن وحدة موسيقى القصيدة هي التفعيلة التي يتشكل منها بيت الشعر، وفي بدايات التجديد في القصيدة العربية التقليدية التي يتكون بيتها الشعري من شطرين (صدر وعجز) لكل منهما عدد من التفعيلات المحددة، لم يلامس التجديد سوى قشرة البيت الشعري الخارجية (تفعيلة العروض، وهي التفعيلة الأخيرة في صدر البيت، وتفعيلة الضرب وهي التفعيلة الأخيرة في العجز) ولم يتوغّل التجديد إلى تفعيلات الحشو وهي بقية التفعيلات في بيت الشعر، لخلق موسيقى جديدة في القصيدة، فبقيت القصيدة الحديثة زمناً ليس بالقصير تعتمد على التفعيلة الواحدة في بنائها مستمدة ذلك من إرثها الطويل والثقيل من موسيقى القصيدة التقليدية الذي شكّل ذائقة شعرية (للشعراء والقراء على حدّ سواء) محددة بإطار موسيقي معين ضرب طوقه على القصيدة وضيّق فضاء أجنحتها وكبّل خيال الإبداع فيها، إلى أن جاءت قصيدة النثر التي تجاوزت الخطوط الحمراء كثيراً عند "حراس الأسس" ولم تعبأ بصرخاتهم ومدافعهم الصوتية، إذ حطمّت قصيدة النثر من ضمن ما حطّمته هذه الموسيقى الصوتية ذات الإيقاع الزمني الموحّد في القصيدة، وأظن أن قصيدة النثر بجرأتها الكبيرة في إعادة بناء موسيقى القصيدة أعطت مساحة كافية من الشجاعة لقصيدة التفعيلة لتخرج من عباءة التفعيلة الواحدة في بنائها وأن تعيد تشكيل موسيقاها، ففي العرف الموسيقي أن أدنى درجات الموسيقى هي تلك التي تتكون من نغمة وحيدة تتكرر كل الوقت، تعتبر تلك الموسيقى فقيرة جداً وسماؤها محدودة، بل إن البعض لا يعتبرها عملاً موسيقيّا مكتمل النمو، فالعمل الموسيقى في نظرهم مزج أكثر من نغمة بتجانس غير نشاز، وإن أرقى الأعمال الموسيقية وأعلاها قيمة هي تلك الأعمال التي يتشكل نسيجها من أنغام ومقامات وأصوات مختلفة تنساب في روح المتلقي كالماء المقدّس فتعيد لروحه خضرتها، كالأوركسترا مثلاً، هذا هو فضاء قصيدة التفعيلة الموسيقي، فهي لم تتخلص تماماً من غنائيتها كما فعلت قصيدة النثر، ولكنها أبحرت في فضاء الموسيقى وخلقت موسيقاها، فلم يعد النص في قصيدة التفعيلة محصوراً في "زقاق" التفعيلة الواحدة بل فتح ممرات وجسوراً نغمية للتفعيلات الأخرى لتتشكّل موسيقى النص من أكثر من تفعيلة متجانسة، إلا أن المعضلة التي تواجه قصيدة التفعيلة في الجزيرة العربية تحديداً (منبع الشعر النبطي) أن الذائقة العامة الموسيقية تشكّلت على أساس النغمة الواحدة المتكررة ذات الزمن الموسيقي الثابت، وأظن أن لفقر تراثنا الموسيقي ومحدوديته لأسباب تاريخية إما دينية أو اجتماعية علاقة بحصر ذائقتنا الموسيقية في هذا الإطار، حتى إن ذاكرة تاريخنا في الجزيرة العربية لا تحمل في صفحاتها أسماء لآلات موسيقية عديدة ومتنوعة إذا استثنينا الدف والآلات الإيقاعية المشابهة والربابة، أما الآلات الموسيقية المستخدمة حديثاً فكلها مستورد من حضارات أخرى متأخر جداً، لذا قصيدة التفعيلة في الجزيرة لا تراهن في موسيقاها على ذائقة "حراس الأسس" الذين تمترسوا خلف ذائقتهم الموسيقية القديمة، وإنما تراهن على ذائقة الذين اتسعت ذائقتهم الموسيقية وتشبعت أرواحهم بأنواع مختلفة من الموسيقى.