ليتها قضية الحربي فقط
تُهنا وغرقنا في محيط الفساد واتهاماته المتبادلة بين المتنفذين ورؤوس كبيرة في السلطة، ولم نعد نعرف الصادق من الكاذب، والصالح من الطالح بين القابعين في أعلى السلمين الإداري والسياسي، وإذا كانوا يقولون إذا أردت أن تنظف السلم فلابد أن تبدأ من أعلاه ومن الدرجة الأولى، أي درجة المراسيم كالوزير والوكيل والوكيل المساعد، لكن هذا لا يمكن في دولة المحسوبيات العشائرية الريعية، فمعظم الصاعدين في السلم وصلوا إلى أعلى السطح الكويتي، ليس بجدارتهم، بل حسب "صدف" معارفهم وقربهم من هذا الشيخ أو ذاك والدوائر الضيقة المتعارف عليها بينهم، مثل هذا الكلام يتكرر "بحدود المسموح" في أدبيات الصحافة المقيدة بمصالح النفوذ وجماعات السلطة، ويعاد ذكره في دراسات كثيرة، لكنه من دون جدوى، فالفساد أعمى عيونهم وأغلق آذانهم، وأصبحت كل أحاديث الفساد لتسلية قراء الصحف، ولملء فراغ ملل وسائل التواصل الاجتماعي. أخبرونا أين الحقيقة في استقالة وزير الصحة؟! يقول الأخير إنه لا يمكن أن يعمل في أوساط فاسدة، ولابد أن يقيل الوكيل وبعض الوكلاء المساعدين أو كلهم (أو يدوّرهم كما فعل)، وهناك رد عليه من جماعات ووسائل إعلام، قد تحسب أيضاً على قوى متنفذة، ويظهر هذا الرد نفسه بمصداقية حكم القانون، يقول أصحابه للوزير، إنك وجهت اتهامات وأصدرت أحكاماً على الوكلاء دون محاكمة، أي دون لجنة تحقيق من الوزارة أو غيرها، وهذا ليس عدلاً. وجهة نظر تبدو صائبة، ويبدو أكثر صواباً أن يحال من يتهمهم الوزير إلى النيابة إذا كانت هناك دلائل جدية لفسادهم، لكن هذا مردود عليه بأن الحديث هنا يدور عن مسؤولية سياسية ترتكز على أخلاقيات عمل مهنية ليست بالضرورة مخالفة للقانون، ومن ناحية أخرى، منذ متى أصبحت لجان التحقيق مجدية وتنتج أثرها المطلوب عند أصحاب القرار؟ ذكّرونا بواحدة أو اثنتين إن سمحتم.
مع ذلك، وما في اليد حيلة مع واقع فساد يخيم على جُل مؤسسات الدولة لِمَ لا يحيل الوزير "المستقيل" الموضوع إلى لجنة تحقيق أو النيابة؟ ربما "وعل وعسى" أن تظهر الحقيقة معه أو ضده، وهذا من باب أضعف الإيمان.وكان يمكن للوزير الحربي أن يتأسى بتجربة يوسف النصف، فقبل سنوات طويلة قبل السيد النصف منصباً وزارياً واستقال بعد ذلك بعشرة أيام تقريباً، عرف طريقة العمل الوزاري وكيف تدار الدولة، فخرج وأغلق الباب خلفه دون ضجة، فالإصلاح في ثقافة الدولة التقليدية لابد أن يكون بحدود، ولابد أن يكون بترخيص مسبق من الأعلى كي لا يصيب أصحاب المصالح العليا بضرر، هكذا تملي الأعراف نفسها في مثل بلداننا، لم يفعل الحربي ذلك، واستمر في عمله مدركاً مقدماً مستنقعه الآسن، لأنه عمل وشارك فيه سلفاً، فهل نسي الحربي تجربة النصف أو غيره من القلائل الذين خرجوا من الوزارة بصمت دون أي ذكر لماضيهم، أم كان غير مُلم بواقع الدولة العميقة والغريقة الكويتية في آن واحد؟ليتها قضية د. الحربي ووكيل الوزارة والوكلاء المساعدين فقط، ومن يكون منهم صاحب الحق أو رفيق الباطل، بل هي قضية دولة بكل كياناتها ومؤسساتها، تاهت وتاه مستقبل أطفالنا بنهج جهل إدارتها، وإذا كانت الأمور في السابق وأيام الوفرة تتحمل كل ذلك الكم من اللامبالاة السياسية وفساد المؤسسات، فإنها اليوم بزمننا الاقتصادي العصيب لم تعد كذلك، اصحوا يا ناس.