مستقبل الإعلام الذكي
لكل زمن رجاله ولكل عصر أسلوبه، والجماهير التي كانت تقبل في مرحلة سابقة ما يقدم لها من سياسات وإعلام، أو إعلان عن هذه السياسات لم تعد الجماهير نفسها، قد يكون الأشخاص هم أنفسهم، ولكن قبولهم اختلف، واضطرارهم للقبول بما هو مطروح أو مفروض عليهم لم يعد موجوداً، هذا الاضطرار تراجع أو انهزم أمام تغيرات محلية وإقليمية ودولية أدت جميعها في النهاية إلى تغير المعادلة، ولا أقصد هنا بتلك التغيرات مجرد الحديث عن التغيرات السياسية فقط، ولكن أضيف إليها أيضاً التغيرات المرتبطة بمجالات التقنية والاقتصاد والمعلومات المتاحة وتدفقها. مناسبة ما أشير إليه هنا مرتبطة بالتغيرات التي تشهدها منطقتنا العربية، وهذه التغيرات وضعت الأنظمة وأجهزتها الإعلامية أمام مأزق واختبار مهم، هو كيف يمكن لها أن تتعايش مع تلك المتغيرات الجديدة، كيف لها أن تستمر في تواصل مع جمهورها الذي لم يكن أمامه من قبل إلا القبول بما يقدم له من غث أو سمين من خلال شاشات وسماعات وأوراق تُسَوَّد، بما يروق للنظام، أي نظام، أن يمرره أو يفرض على شعبه أن يتجرعه، اليوم بات الأمر مختلفاً، وأصبحت قدرة المتلقين على اتخاذ قرارهم بإعدام صحيفة أو محطة تلفزيونية لا تستدعي أكثر من قرار الضغط على زر ليصدر حكمه بالإعدام على تلك المحطة أو ذلك البرنامج... يضاف إلى ذلك تلك الدرجة الملحوظة من تطور وعي المتلقين الذين باتوا قادرين على كشف أي محاولة للتغرير بهم، ورفض أي محاولة لتغييبهم.
هذه المتغيرات جميعها وضعت أمام القائمين على عملية الاتصال بالجماهير عبئاً جديداً، أنا هنا لا أدعو الأنظمة إلى التخلص من وسائل إعلامها، وأيضاً لا أدعو إلى منع القوى السياسية الأخرى الحاضرة في المجتمع من الحضور إعلامياً بأشكال مختلفة، ولكنني دوماً كنت أتحدث عن وجود إعلام ذكي يتمكن من أن يكون داعماً وسنداً قوياً وحقيقياً للمجتمع وللنظام في إرساء قواعد صحية لعلاقة المواطن بالدولة والدولة بالمواطن. هذا الإعلام الذكي الذي يصب في مصلحة الوطن كله، نظاماً وشعباً، هو ذلك الإعلام الذي يعكس بحق صورة المجتمع وصورة الوطن، هو ذلك الإعلام الذي يفتح المجال أمام القوى السياسية والمجتمعية لكي تكون حاضرة ومعبرة عن رأيها ومواقفها في حدود القواعد الأساسية التي يتوافق عليها المجتمع، هو ذلك الإعلام الذي ينجح في أن يكتشف لغة الخطاب الصحيحة التي يصل بها إلى المواطن في الشارع، واللغة الصحيحة التي بها يمكن أن يحمل طموحات وآمال هذا المواطن إلى أوسع دائرة ممكنة، هو إعلام يؤدي دور التواصل بين أطراف المجتمع كله حكاماً ومحكومين. هذه الصورة ليست صورة مستحيلة التطبيق، ولكنها ممكنة في ظل شروط عدة من بينها صدق الرغبة لدى الأنظمة في استعادة جماهيرها، وصدق القائمين وقدرتهم على هذه الأجهزة الإعلامية في تأدية هذا الدور، والتخلص من عوائق وموانع عفا عليها الزمن، ولم تعد صالحة للتطبيق في زمن جديد، لم يعد أمامنا إلا البحث عن كلام جديد لهذا الزمن الجديد، فلم يعد هناك مجال لنجاح حقيقي باستخدام كلام قديم في زمن جديد.