يقوم جوهر فريق ترامب للسياسة الخارجية على تناقض واضح، فهو يتألف من جهة من رجال ذي خبرة يتحلون بالحكم السليم وينتمون إلى الحركة التقليدية، مما يعني أنهم جميعاً ضمن أطر الحركة الدولية الأميركية الرئيسة كما تُطبق منذ عام 1945، ومن الممكن من الناحية العملية أن ينضم كل عضو من هذا الفريق، من مسؤولي الخارجية والأمن القومي إلى وكالة الاستخبارات المركزية، وخصوصاً وزير الدفاع جيم ماتيس ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، إلى حكومة تؤلفها، مثلاً، هيلاري كلينتون.

من جهة أخرى، يبدو الرئيس بحد ذاته النقيض تماماً: يفتقر إلى الخبرة، ولا يلتزم بالتقاليد، ولا يتقيد بأي ضوابط، ولا شك أن تصريحاته حيال شتى المسائل من سياسة الصين الواحدة إلى حل إقامة دولتَين (العربية-الإسرائيلية)، ومن حلف شمال الأطلسي البالي إلى مساوئ التجارة الحرة لا تنفك تصدمنا، وكما نقول اليوم تسبب الاضطرابات.

Ad

وهنا ينشأ السؤال الواضح: هل تحقق هذه التركيبة النجاح؟ من المفاجئ حتى اليوم أن الجواب هو: ربما.

صحيح أن حجم العينة صغير، ولكن لنتأمل مثلاً في الجولة الألمانية، حيث أرسل ترامب كبار رجاله (نائب الرئيس بينس، ووزير الدفاع ماتيس، ووزير الأمن القومي جون كيلي، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون) إلى عدد من اللقاءات الدولية في ألمانيا بغية طمأنة الحلفاء من خلال التأكيدات المعتادة عن التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، مع أنهم لمحوا مرات عدة إلى شكاوى ترامب الصريحة من تطفل الحلفاء، وخصوصاً تهربهم من حصتهم من عبء الدفاع. في غضون أيام، أعلنت ألمانيا توسيع قواتها العسكرية بنحو 20 ألف جندي، ومن المتوقع أن تأخذ الدول الأوروبية الأصغر حجماً أيضاً هذا الوضع الجديد في الحسبان، فتشكّل هذه مناورة "الشرطي الخير والشرطي السيئ" المألوفة: مثّل الوزراء استمرار السياسة الخارجية، في حين نادى رئيسهم بوضع الولايات المتحدة أولاً. والرسالة: قدِّموا أداء أفضل. يشير جون هانا من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات إلى أن تأثير "السحب والدفع" هذا قد يحقق نجاحاً كبيراً في التعامل مع الخصوم كما الأصدقاء، فقبل أيام أعلنت الصين التوقف بالكامل عن استيراد الفحم من كوريا الشمالية لما تبقى من عام 2017، وبما أن الفحم يشكّل أكثر من ثلث صادرات كوريا الشمالية الإجمالية، فإن هذه تمثّل ضربة قوية لاقتصادها.

يُظهر كل هذا أن تركيبة فريق الأمن القومي الأميركي الفريدة والمتناقضة (مسؤولون تقليديون ورئيس مثير للشغب) قد تؤدي إلى سياسة "الرجل المجنون" النيكسونية القديمة. في هذه الحالة سيعمل الخصوم بحذر لأنهم يعتقدون أن الرئيس الأميركي متقلّب، ومتهور أحياناً، ومجنون على الأرجح على نحو خطير. وحاول هنري كسنجر، بالتعاون مع نيكسون، أكثر من مرة استغلال وجهة النظر هذه للضغط على الخصوم. أعرب فريق ترامب عن براعة في التعاطي مع نوبات جنونه، لطالما أكّد ترامب أنه كان علينا أن نأخذ نفط العراق لأنفسنا، ولكن قبل أيام في بغداد تراجع ماتيس بامتعاض عن هذه الفكرة، مخبراً مضيفيه أن "الجميع في الولايات المتحدة دفعوا دوماً مبالغ سخية مقابل الغاز والنفط، ولي ملء الثقة أننا سنواصل فعل ذلك في المستقبل". رغم ذلك، قد يكون لتعليق خارج عن المألوف فائدة كبيرة. لنتأمل، مثلاً، رفض ترامب العابر التزام الولايات المتحدة بحل إقامة دولتين في الشرق الأوسط، وفي اليوم التالي أعاد سفير الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة السياسة الأميركية إلى مسارها المعتاد، لكن هذا الخروج المؤقت عن المسار قد يحمل بعض الفوائد، فقد شكّل رسالة إلى الفلسطينيين مفادها أن سياسة الرفض التي اعتمدوها طوال سنوات ما عادت تجدي نفعاً في المسيرة المحتمة نحو تأسيس دولة، وأن ثمة ثمناً سيدفعونه لأنهم لم يقدِّموا أي تنازلات واكتفوا بانتظار الولايات المتحدة لتمنحهم دولة فلسطينية.

لا شك أن سياسة خارجية تتبع مسارَين، وسياستَين، وواقعَين تُعتبر خطيرة، وكثيرة التقلبات، وقد تخرج بالكامل عن المسار الصحيح، ولا تشكّل هذه الطريقة الفضلى للتخطيط للمستقبل مسبقاً، كذلك تبدو هذه سياسةً غير مستقرة ومحيرة. لكن تجربة الشهر الأول تشير إلى أنها، مع القليل من الحذر والحظ، قد تؤدي إلى فوائد عرضية: قد تؤدي هذه التركيبة من الخطاب المتشدد والسياسة التقليدية إلى سلوك أفضل مع الأصدقاء والخصوم على حد سواء، ولكن لا يمكننا للأسف تجاهل احتمال مواجهة السيناريو الأسوأ، ولا داعي لتوضيحه.

* تشارلز كراوثامر | Charles Krauthammer
واشنطن بوست