كتبت الأسبوع الماضي عن أول قصة أو رواية قصيرة من مجموعة "هوس العمق"، وفي هذا المقال سأكتب عن الثلاث الباقيات، وكل منها تتميز بعمق ونحت رهيب في رسم الشخصيات والأحداث الدائرة من حولها.القصة الثانية بعنوان "معركة" تدور بين لاعب محلي عجوز متمرس باللعبة، وبين شاب وسيم أنيق متغطرس، يلعب بطريقة غير معتادة بقوانين لعبة الشطرنج، ما يحبس أنفاس المتابعين والقارئ، الذي ينسى أنها مجرد رواية تصف معركة على ورق، وليست مباراة حقيقية.
الشاب كان يلعب "بغشامه" من دون إدراك وفهم لقوانين اللعبة، لكن ثقته وغروره وغموضه جعلت المتابعين مبهورين ومندهشين من أسلوبه ونقلاته غير المعروفة وغير المتوقعة، إضافة إلى غيظهم من لاعبهم العجوز الذي لا يُهزم.تنتهي المباراة بهزيمة الشاب وفوز العجوز، الذي قرر بعدها ألا يعود لممارستها، وهذا مقتطف بعد انتصاره: "نعم! كان يريد أن يفوز الغريب عليه ويلحق به الهزيمة على نحو مؤثر، باهر، كان ينتظر بكل ملل تلك النهاية، تلك الهزيمة، ينتظرها منذ سنوات، لأنها ستحرره من عبء كونه الأعظم! من عبء أن يكون عليه دائما أن يقهر الآخرين، وبهذه الطريقة، فإن جمهور المشاهدين الرديء، الجمهور الحاقد، كان سيرضى في النهاية، وينعم هو براحة البال".الرواية تغوص بعبء حمل التفوق والانتصار، وهذه زاوية رؤية عميقة لكاتب عميق.الرواية الثالثة بعنوان "وصية السيد موسار" تقص حكاية صائغ مجوهرات ناجح ومشهور وصل إلى أعلى المراتب، وخاصة بعد وفاة زوجته، شُرف بتعيينه جواهرجيا في بلاط "دوق أورليانز"، ما أثر على تطوره العقلي والثقافي والمعرفي ونمو شخصيته، رغم عدم إكماله لدراسته، بات كبار رجال المجتمع ومشاهيره ضيوفا على مائدته.فقد اهتمامه بصياغة المجوهرات حينما تقدم بالعمر، وقرر أن يتقاعد ويتفرغ لقراءة الكتب والدراسات العلمية، وعلى هذا ابتنى بيتاً جميلاً وزرع حوله حديقة رائعة، اكتشف وجود محار تحت أرض حوض الزهور منعها من النمو، من لحظة الاكتشاف هذه ستتغير حياته، ويبدأ في نبش حديقة بيته وما يحيط به من شوارع إلى أن يقوم بحفر عينات لكل مدينة باريس، وفي كل مكان يحفره يصل إلى المحار، يتوصل إلى استبصار حاد أن كل الكائنات مصيرها ينتهي إلى تحولها بعد موتها إلى التحجر، ومن ثم التحول إلى مادة المحار، ثم يُصاب بمرض غريب يموت على أثره.الرواية فانتازيا عميقة لنظرية قد تكون تحمل شيئا من الحقيقة المرعبة لفناء البشر، وهذا مقتطف منها: "البشرة تصبح أكثر صلابة، الشعر يتساقط، الشرايين والقلب والمخ تتكلس، الظهر ينحني، يأخذ شكل المحارة، الجسم كله ينثني، وفي النهاية يتداعى في المقبرة كومة بائسة من الأحجار المكسورة، بيد أن تلك ليست النهاية، فالمطر سوف يتساقط، وقطراته سوف تتغلغل في الأرض، والماء سينخر الجسد البائس، ليتآكل وتتفتت أوصاله إلى نثار يهبط إلى طور المحارة، حيث يجد مستقره النهائي".الرواية الرابعة باسم "الحمامة"، وهي أطول روايات المجموعة، وسبق أن قرأتها بكتاب.رواية رائعة قمة في رسم وتصوير عزلة مرضية لإنسان وحيد في مجتمع آلي بارد لا يعنى بأحد ولا يهتم به.عاش جوناثان نويل حياته في حالة نبذ، عزل نفسه عن كل العلاقات الإنسانية من حوله، اختفت أمه حينما كان في السادسة من عمره، ثم بعدها اختفى والده في زمن الحروب النازية، أخذه عم لهما هو وأخته وشغلهما كمزارعين عنده، ثم أُخذ لأداء الخدمة العسكرية، عاد بعدها بثلاث سنوات، منها سنة قضاها في المستشفى للعلاج من إصابة بقدمه، بعد عودته يكتشف أن أخته سافرت إلى كندا، وعمه زوجه من امرأة ولدت بعد أربعة شهور من الزواج ثم هربت، وبالتالي يقرر الذهاب إلى باريس، ليعمل حارسا لبنك، ويسكن في شقة صغيرة باتت كل عالمه وكل أحلامه، ليس له أي تواصل حميم مع أي كان، إلى أن وجد ذات صباح حمامة أمام باب شقته، الحمامة ستقلب حياته وسيعيش في حالة رعب تجعله ينام في فندق إلى صباح اليوم التالي، خرج بعد سقوط المطر وأخذ يسير بحذائه في برك الماء المتخلفة من الأمطار، ولأول يشعر بحرية التصرف وفوضويته دون مراعاة لأحد ومتخلصاً لأول مرة من مخاوفه، يعود إلى شقته يجد الحمامة قد خرجت، وهي ليست إلا مخاوفه.
توابل - ثقافات
هوس العمق (2)
27-02-2017