في ظل زيادة رسوم الإقامة والخدمات الصحية والمصروفات الدراسية ورفع أسعار البنزين والماء والكهرباء، وتخفيض بدل السكن للمعلمين، وارتفاع الإيجارات، والتوجه الحكومي إلى تخفيض أعداد الوافدين، وتعديل التركيبة السكانية، يقف الوافدون مكتوفي الأيدي مغلوبين على أمرهم، ولا ناقة لهم ولا جمل فيما يدور من حولهم من ارتفاع جنوني في أسعار السلع والخدمات يكاد يلتهم كل ما في جيوبهم ويزيد، فأصبحوا بين نار الغلاء أو الرحيل من البلاد. ويرى مراقبون أن الكويت دخلت فعليا في مرحلة تطبيق سياسات التقشف ضد الوافدين، وأن هذه السياسات من شأنها دفع كثيرين منهم للهجرة إلى دول أخرى أكثر أمانا من الناحية الاقتصادية، حيث يشير خبراء إلى أن الكويت تقترب من الانضمام إلى الدول "الطاردة للعمالة".
ووفق تقرير مؤسسة "انترنيشنز" الدولية المعنية بتصنيف أفضل الوجهات حول العالم لإقامة الوافدين، حلت الكويت في المرتبة الأخيرة عالميا من بين 67 دولة شملتها الدراسة، وحسب المؤشرات الرئيسة للتصنيف جاءت الكويت في المركز 56 من حيث الوضع المالي، و61 من حيث الوضع الوظيفي، و65 من حيث جودة الحياة للوافدين.
موجة الغلاء
ويعد الوافدون الأكثر تأثرا بموجة الغلاء التي تشهدها الكويت، نظرا لضعف الدخل الشهري، حيث أصبح الوافد محاصرا بين زيادة "المصاريف"، فمع تسلم الراتب الشهري يبدأ بسد احتياجاته التي تضاعف سعرها في السنوات الأخيرة، سواء مواد غذائية أو مستلزمات شخصية أو وقود، إضافة إلى إيجار السكن الذي أضحى "البعبع" الذي يطاردهم في أحلامهم.وبعد الانتهاء من تحدي توفيق الأوضاع المعيشية وتوفير الحاجيات، لا يتبقى من الراتب إلا القليل لادخاره، أو إرساله إلى العائلة التي تنتظر "المصروف" شهريا، أما الوافد الذي يصطحب زوجته معه، فنادرا ما يتمكن من الادخار إلا في حالة توفير عمل إضافي بجانب العمل الأساسي، أو عمل الزوجة.ارتفاع الأسعار
"الجريدة" التقت عددا من المقيمين من جنسيات مختلفة، حيث اتفقوا جميعا على ارتفاع أسعار الإيجارات بشكل مبالغ فيه، إضافة إلى زيادة أسعار المواد الغذائية، كما كان لرفع أسعار البنزين والرسوم الصحية أخيرا حضور بارز على جدول شكواهم.بداية، يرى أحمد جمال (مهندس مصري)، أن هناك شريحة كبيرة من الوافدين أصبحت غير قادرة على تحمل أعباء غلاء المعيشة في الفترة الأخيرة، خصوصا أصحاب الدخول المنخفضة من العمال والحرفيين والذين يمتهنون مهنا لا توفر لهم دخل كاف، مبينا أن الغلاء يشمل مختلف الخدمات، وأشار إلى أنه من خلال اطلاعه على أسعار الإيجارات في عدد من الدول، تبين له أن الإيجارات في الكويت هي الأعلى في المنطقة، كما أنها من بين أغلى المدن عالميا، موضحا أن إيجار الشقة المكونة من غرفتين صغيرتين يوازي 50 في المئة أو أكثر من راتب الوافد ذي الدخل المرتفع، "إذا افتراضنا أنه يتقاضي من 500 إلى 600 دينار شهريا"، ويتراوح سعرها بين 300 و320 دينارا، وأحيانا يصل إلى 350 دينارا، أما صاحب الدخل الأقل فيضطر إلى التشارك مع زملائه أو أقربائه في سكن جماعي لتوفير النفقات، مضيفا "هذا فقط السكن، أما عند حساب متطلبات الحياة الأخرى، فإننا نجد أن غالبية الوافدين لا يستطيعون الادخار، الذي يعد الهدف الأساسي لأي شخص يسافر للعمل خارج وطنه". وحذر جمال من تداعيات رفع الرسوم والتي قد تدفع البعض للرحيل عن الكويت، مطالبا الجهات المعنية بضرورة وضع حد لهذا الارتفاع الجنوني في الأسعار.حلم الادخار
بدوره، قال عدنان السراحين (سوري الجنسية)، بائع بالفروانية: الجميع متضررون من الغلاء، لكن الضرر الأكبر يقع على الوافدين لخصوصية أوضاعهم عن المواطنين، وأشار إلى أنه يقيم في الكويت منذ 9 سنوات، وفي السنوات الخمس الأخيرة تضاعفت أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية بنسبة تتعدى الـ50 في المئة، وأضاف: "كنت أشتري حزمة الخضار بـ 200 فلس، الآن ثمنها وصل لـ 300 و350 فلسا، وفي بعض الأماكن وصل 400 فلس، وإيجار الشقة ارتفع من 220 إلى 350 دينارا"، وأوضح "أنا أحصل على راتب 350 دينارا شهريا، وهو رقم جيد نسبيا مقارنة برواتب الآخرين من العمال وغيرهم، لكني لا أدخر منه شيئا، بل أحيانا يكون غير كاف لأعيش حياتي كإنسان طبيعي دون حرمان من ضروريات الحياة، من طعام وملابس ومواصلات وسجائر ومصاريف للأهل، أما الادخار فهو حلم بعيد على أغلب الوافدين في هذه الأيام الصعبة".وأشار إلى أن الكثير من أصدقائه "سابوا" الكويت، وسافروا إلى بلدان مجاورة بسبب غلاء المعيشة.تغير الأوضاع
إلى ذلك، عبر رأفت محمد، (موزع بإحدى شركات منطقة صبحان)، عن استيائه الشديد من الأوضاع التي يعيشها في الفترة الحالية، وأكد "الأوضاع في الكويت تغيرت عن السابق كثيرا، أسعار كل شيء ارتفعت بداية من المواد الغذائية والمواصلات والملابس، وانتهاء بالوقود، أما السكن فهو المعضلة الأساسية التي يعانيها جميع الوافدين، ولا تسأل عن الإيجارات التي يحددها صاحب العقار حسب رغبته الشخصية"، وأكمل: "أنا أسكن مع 3 من أصدقائي في غرفة واحدة بإيجار شهري 140 دينارا، وصاحب العقار يرفع قيمة الإيجار علينا كل 6 أشهر"، مؤكدا أن هناك بعض الغرف التي يسكنها 8 أشخاص وأحيانا 10 أشخاص لتوزيع الإيجار فيما بينهم".ارتفاع الإيجار
وقارن أحمد رجب، (مصري يعمل بمنطقة العارضية)، بين حجم الأسعار منذ 3 سنوات وحجمها اليوم قائلا: "منذ 3 سنوات كنا نشتري مستلزمات الطعام أسبوعيا من خضراوات وغيره بـ 3 دنانير، أما اليوم فأحتاج إلى ثلاثة أضعاف هذا الرقم لشراء نفس المستلزمات التي كنت أشتريها في السابق"، وأضاف: "تشاركت مع زملائي منذ 3 سنوات في شقة إيجار بمنطقة الفروانية بـ 220 دينارا، واليوم وصلت قيمة إيجارها 335 دينارا، ولولا أن الشركة التي أعمل بها وفرت لي سكنا، لا أدري كيف كان سيصبح حالي".كما أشار إلى ارتفاع ثمن تذكرة الباص من 250 إلى 300 فلس، مؤكدا أنه وأقرانه من أصحاب الدخول المنخفضة يتأثرون بهذه الزيادات التي تبدو بسيطة في نظر البعض، لأن الراتب "يا دوب" ومحسوب بـ "الفلس".«ماكو فايدة»
من جانبه، أكد تك بهادور (هندي يعمل بإحدى شركات الصناعات الطبية)، أنه "ماكو فايدة من عمل داخل كويت"، وأشار إلى أنه يتقاضى 75 دينارا، وأنه لولا أن الشركة توفر له سكنا لدفع كامل راتبه كإيجار، وذكر أنه لا يدخر من راتبه إلا خلال شهر رمضان، حيث يتناول طعامه في المساجد والموائد، أما خلاف ذلك فلا يدخر شيء يذكر.ويحذر الخبراء من أن استمرار الأوضاع بهذه الصورة قد يدفع بالكثيرين نحو مغادرة الكويت إلى بلدان أكثر أمانا من الناحية الاقتصادية، خصوصا الشريحة الأعلى تعليما والأكثر خبرة وكفاءة في مجالاتها، والتي تحتاج إليها الدولة وتحرص على بقائها، وهو ما يدق ناقوس خطر ويلقي بالمسؤولية على كاهل الدولة للحفاظ على العقول والأيدي العاملة الماهرة وتحسين الأوضاع.سياسات خاطئة
من جانب آخر، قال الخبير الاقتصادي عدنان الدليمي لـ "الجريدة" إنه يجب على الدولة مواجهة المشكلات الاقتصادية التي نتجت عن تراجع أسعار النفط بطرق أكثر احترافية، بدلا من العمل على فرض رسوم إضافية على الوافدين، مؤكدا أن الاقتصاد الوطني بحاجة إلى الوافدين، وهذه الإجراءات غير المدروسة ستتسبب في فقدان انتماء هؤلاء للدولة وضعف إنتاجيتهم، وهو ما سيعود بالخسارة على حركة العمل والإنتاج.وأوضح أن قرارات الحكومة الخاصة برفع الدعم عن البنزين والكهرباء، وزيادة رسوم الإقامة والرسوم الصحية على الوافدين، وغيرها من القرارات التي تم اتخاذها أخيرا جاءت بشكل غير مدروس ومن دون خطة واضحة استجابة للضغوط التي مارسها بعض الأشخاص بهدف التضييق على الوافدين، وعمل الحكومة إرضاء هؤلاء الأشخاص على حساب الوطن.وأكد أهمية إيجاد حلول تتسم بالابتكار والانفتاح لدعم الاقتصاد، والتركيز على الوثيقة الاقتصادية وغيرها من القضايا المهمة التي ستعود بالنفع على الاقتصاد أكثر من الرسوم التي تحصل من الوافدين، لأن الضغط عليهم بهذه الصورة سيحدث انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني وعلى الأعمال والوظائف والإنتاجية.وذكر أن الوافدين جزء من النسيج الاقتصادي للدولة والكثير منهم أصبح ولاؤه للكويت، لأنه وجد فيها الوطن الذي يرتزق منه، لكن سياسات الدولة الحالية طاردة للوافدين، وتدفع كثيرين منهم لكراهية البلد.وأشار إلى أن بعضا من الكفاءات الوافدة غادرت الكويت لعدم قدرتها على سداد متطلبات الحياة، وبعضهم أرسل زوجته وأولاده لوطنه الأصلي، وأصبح يتشارك مع زملائه في سكن جماعي لتوفير النفقات، وهو ما أثر على مقدار عطاء وإنتاج هؤلاء. كما ذكر أن بعضهم يعمل بمرتبات ضعيفة جدا لا ترتقي للحد الأدنى للمعيشة، ولا تكفي لتغطية أبسط ضروريات الحياة، وهو ما قد يتسبب في تفشي الجريمة والسرقات في المجتمع.معدل التضخم
من جهته، أفاد أستاذ الاقتصاد بجامعة الكويت، د. نايف الشمري، بأن الخدمات الرئيسة التي تمس حياة الوافدين اليومية تشهد ارتفاعا ملحوظا، وهو ما يؤثر على استقرارهم المالي وعلى سمعة الكويت كدولة جاذبة للكوادر الماهرة للعمل بها، موضحاً أن 82 في المئة من قوة العمل في الاقتصاد الكويتي وافدة، وهو مؤشر قوي على أهمية توفير مناخ جيد لهم، ومراعاة حالتهم الاقتصادية والاجتماعية عند فرض رسوم أو إصدار قرارات من الحكومة، حتى لا يتأثر سوق العمل سلبيا بهذه القرارات.وذكر أن معدل التضخم في الكويت ارتفع إلى 3.3 في 2016، بعدما كان 2.9 في عام 2015، مبينا أن خدمات المسكن والغذاء بشكل خاص شهدت ارتفاعا في المؤشر، وهو ما أثر على الوافد بشكل مباشر عند حصوله على احتياجاته بعكس المواطن الذي يحصل على غالبية السلع الغذائية الأساسية مدعومة من قبل الدولة.وأشار إلى أنه رغم ارتفاع مؤشر معدلات التضخم، فإنه لا يعكس حقيقة الأسعار في الكويت، وهو بحاجة إلى التطوير والتعديل، حيث إن خدمات المسكن والعقار كمثال وزنها 28 في المئة في المؤشر، أما واقعيا فالفرد ينفق من دخله ما يصل إلى 50 في المئة على السكن، مؤكدا أن عدم دقة المؤشر في التعبير عن واقع الأسعار ينطبق أيضا على الغذاء وغيره من الخدمات التي يحصل عليها المستهلك.وبين أن دور لجنة حماية المستهلك بحاجة إلى التفعيل والتطوير، لأنها بوضعها الحالي تعاني تعقيدات كبيرة جدا عند عمل ضبطية غش تجاري، ما يعيق عملها، مؤكدا ضرورة إنشاء هيئة مستقلة لحماية المستهلك تتمتع بصلاحيات قانونية، تمكنها من أداء دورها بالشكل الصحيح.