«لا موسيقى في الأحمدي»
مَن يقرأ رواية "لا موسيقى في الأحمدي" لمنى الشمري، لابد أن يلمس شغف الكاتبة بالتسجيل لسيرة المدن، كحياة وناس وبيئة وتاريخ. ويبدو لي أن هذا التوجه بات يأخذ شكل المشروع الكتابي، إذا أخذنا بعين الاعتبار مجموعتها القصصية (يسقط المطر، تموت الأميرة) ضمن هذا المنحى، وربما كتابات أخرى قيد التحضير. وعليه، فالحكاية لدى منى الشمري تنطلق من المكان كبؤرة أساسية، بل كبطل أوحد تدور في فلكه وجوه البشر وأحداث الحياة وتغيرات الأقدار. وهكذا، تبقى المدينة – على مستوى التخييل والاسترجاع- راسخة بملامحها وبيئتها وتاريخها، وقابلة دائماً للمقاربة وإعادة التشكيل.
عنوان "قصة مدينتين" هو الأكثر تمثيلاً لرواية منى الشمري، والمدينتان هما الأحمدي والفحيحيل إبان تأسيس الأولى كمدينة للنفط والحياة الجديدة التي أتى بها الأجنبي، وتماهي الثانية في رفقة البحر والبساطة القروية وأصالة الانتماء. وحول المدينتين تنهض الأحداث ويلتمّ النسيج البشري مندغماً بروح المدينتين وتناقضاتهما وملمحيهما المفارقين. وهكذا تتلون الشخصيات بخصائص المكان، فيبدو سكان الأحمدي أكثر انفتاحا وتحررا وتجرؤا على التقاليد، وأكثر تناغما مع حداثة التخطيط وغرابة العمران وجدة المهن. بينما يميل سكان الفحيحيل إلى مهادنة أنماط العيش بتقليديتها وإيقاعها المتمهل ونسبها العريق بالبحر والسواحل الأليفة. فلا غرو، والحال كذلك، أن تضم الأحمدي أمثال الإنكليزية "ألين" المغرمة باقتناء الآثار التاريخية لممالك الصحراء البائدة، والمنكبة على تدوين حياة الناس وسيرة المكان في مذكراتها، وكذلك تضم "الجليلة"، المرأة المحبة للحياة والصحبة والصخب والجمال. كما أنه لا غرابة أن يعيش في الفحيحيل الجد (عضيبان) الضارب في جذور نسبه النجدي حدّ التعصب، وكذلك تعيش "حصة"، ابنة أخيه وزوجة ابنه، في سياج من المحافظة والروحانية والنقاء المفرط. لكن بين الأحمدي والفحيحيل تضعنا الكاتبة في مواجهة شخصية الفتاة (لولوة)، وتجعلها تتأرجح بين المدينتين، شاخصة في تناقضاتهما وممثلة لنموذج فريد من التحمُّل والتعايش مع ظروف حياة لا تخلو من القلق والأحزان الغائرة وبعض المباهج. على مستوى آخر تخوض الكاتبة في فسيفساء المكوّن الاجتماعي المحلي، راصدة تنوعه وطوائفه وفئاته التي قُدّر لها بفعل عوامل ظرفية وتاريخية أن تجتمع في هذه البقعة، مشكّلة تلك الفسيفساء بألوانها وتنوعها. لكن رغم التعايش المديد، لابد أن تطفو على السطح نعرات التعصب للأصل أو الطائفة أو الفئة، ويطل الاستكراه برأسه، أو الاستنكاف من ممارسة أو مصاهرة بين المختلفين. وعادة ما يكون لهذا الاختلاف الطائفي والفئوي ضحاياه، وخاصة من المحبين الذين غالبا ما يفشلون في إتمام زيجات مستحيلة.وهنا يأتي دور "لولوة"، لتعيش قلق تلك التحديات في بيئة تتقلب على جمر خفيّ، ولتعاني ذلك اللون من التحمّل الصامت، وما يجره من أوجاع نفسية ورفض وغضب مكتوم. وفي مواجهة "لولوة" المفعمة بالقلق والارتباك، والمحبة في ذات الوقت للشاب العُماني الذي ليس "من ثوبها"، كما تقول التقاليد، يقف جدها (عضيبان) من جهة أخرى، ليمثل التعصب والصلف لجذوره النجدية التي لا تقبل المساومة فيما يتعلق بالمصاهرة والنسب. وحين يموت الجدّ في نهاية الحكاية، تصل "لولوة" إلى حالة قصوى من الانفصام المرضي عن الواقع، وكأنها فقدت القدرة على تسجيل أي موقف إزاء هذا الوضع المربك، ففضلت الانسحاب، وإنْ بطريقة غير واعية. وبهذا، لا تبتعد الكاتبة كثيراً عن واقع الحال، بل تستعرضه، وهي تقرّ بمسلَّماته وشروطه، التي لا يزحزحها الزمن. صحيح أن أحداث الرواية تدور بين عقدي الخمسينيات والسبعينيات، كما يبدو من حيثيات السرد، إلا أن الحديث عن مكونات المجتمع من النجادة والشيعة والعجم والبدون والأصول العراقية والفلسطينيين والعُمانيين يمكن إسقاطه على الواقع الآني بكل وضوح.إن الحكاية في رواية "لا موسيقى في الأحمدي" تبدو لي حكاية مسطحة أو أفقية، بمعنى أنها تحتفي بطبيعة المدن ومميزاتها البيئية وطبقاتها الاجتماعية، ثم بطبيعة العلاقات البشرية المبنية على هذا الواقع الاجتماعي المعيش. ومن خلال تفكيك هذه البنية المجتمعية تنبثق الشخصيات وتأتي الأحداث، تماما كما تنبثق الأغصان والأوراق من ساق الشجرة وجذورها.في الرواية ملامح أخرى جديرة بالذكر، تأتي على رأسها اللغة اللينة، التي قد تصفو في بعض المواقع لتلامس الشعر. وهناك أيضا وقفات جميلة في وصف حياة البادية وسحر الصحراء وتضاريسها وعادات سكانها. وكذلك التفاتات إلى التمثل بالشعر النبطي، وإلى الاتكاء على المصادر المختلفة التي يمكن أن تغذي هذا اللون من الكتابة وتثريه.