ثقافة الاحتفال
على امتداد التاريخ البشري، استن الناس طقوساً لاحتفالاتهم، وهي طقوس تستمد رموزها وألوانها وأهازيجها وحركاتها من فحوى تلك المناسبات، فرحاً كانت أو حزناً، فردية كانت أو جماعية. وكانت تلك الاحتفالات موسمية أو عابرة تقف عند مناسبات بعينها، لتميزها معلنة أهميتها وتفردها، مقارنة بأيام أخرى تمر دون أي علامة تخصها.الميلاد والموت والتواريخ الدينية ومواسم الخصب وذكرى انتصارات الأمم، جميع هذه المناسبات وغيرها بقيت حاضرة بطقوسها في الوجدان الشعبي، وظلت الشعوب تتناقلها جيلاً بعد جيل محتفظة بجوهرها، لكنها تلونها شيئاً فشيئاً براهن اللحظة العابرة المتغير، وتنتقل بها إلى وجه الحاضر، مع احتفاظها بروحها وطقسها الأهم.اعتادت الكويت منذ إعلان استقلالها الاحتفال بالعيد الوطني، وشاءت الأقدار أن يقترن العيد الوطني بعيد التحرير، ليشكلا علامة مميزة يحتفل الشعب الكويتي سنوياً بها. إن عودة بسيطة لما كانت عليه احتفالات السبعينيات والثمانينيات نجد أنها كانت تقدم شكلاً متحضراً ولافتاً من أنواع الاحتفالات الرسمية والشعبية. لكن، منذ التحرير أخذ الاحتفال أشكالاً لا تليق بالمناسبة، بل تسيء إليها.
إن أهم ما ميَّز الاحتفال بالأعياد الوطنية قبل الاحتلال الصدامي الغاشم، هو اقتران المناسبة باحتفال فني كبير، يضفي عليه أهمية خاصة، حضور صاحب السمو أمير البلاد وسمو ولي العهد، وجمع غفير تمتلئ به مقاعد صالة مسرح المعاهد الخاصة. تلك الاحتفالات كانت تستمد عناصرها وألوانها من التراث الكويتي، وينفذها طلاب وطالبات المدارس الحكومية، بإشراف الموجهين الفنيين في وزارة التربية. ولقد بقيت في الذاكرة الكويتية حتى اليوم، كلمات الأغاني التي تصدى لها المرحوم الشاعر عبدالله العتيبي، ولحنها الموسيقار غنام الديكان، وشدا بها الفنان الكبير شادي الخليج، ولاحقاً شاركته سناء الخرّاز. وإلى جانب تلك الاحتفالات الفنية، كانت هناك احتفالات أخرى، تشارك بها هيئات رسمية وشعبية، تسير في عصر ومساء يوم الاستقلال في شارع الخليج العربي، وبمشاركة شعبية كويتية وعربية وأجنبية. لتلك الاحتفالات رونقها الجميل، وبهجة المشاركة بها، ولها قبل هذا وذاك تنظيم دقيق وفرحة متفاعلة مع الحدث الوطني الأول.إن مناسبة كالعيد الوطني وعيد التحرير مؤكد أنها تستحق الاحتفال، وما يُفترض أن يكون مؤكداً أيضاً هو ضرورة أن تتصدى لها جهة رسمية، جهة تتولى تنظيم الاحتفالات رسمياً وشعبياً بما يليق بالمناسبة، من احترام ورصانة وأمانة في احترام تراث الكويت وتضحية أبنائها الشهداء. لقد تحولت الاحتفالية في السنوات الماضية إلى ما يشبه الفوضى. فوضى في الجهات التي تتصدى للاحتفال، وفوضى في طريقة الاحتفال، وفوضى في اختيار ما يليق للاحتفال من مادة تراثية فنية، وأخيراً فوضى في طريق الاحتفال. وهذه الأخيرة وحدها صارت تنفّر مجموعة كبيرة من المواطنين والمقيمين، حتى إنهم يقبعون في بيوتهم خوفاً مما قد يلحق بهم في حال خروجهم للمشاركة بالاحتفالية.الاحتفال بالمناسبة ثقافة، وجزء من سلوك إنساني يدل على صاحبه، ولا أظن أن قذف المارّة أو الجالسين على جوانب الطريق بالماء الملوث أو ببالونات مملوءة بالرمل أو بمادة حارقة على وجهوهم، لا أظن أن هذه الأفعال الشائنة لها علاقة بالاحتفال، أو بالعيد الوطني.الأعياد الوطنية، وكما يدل عليها اسمها، هي أعياد للوطن، وما يُفترض أن يأتي بهذه المناسبة يجب أن يليق بالوطن ويلبس ثوب العيد. صار ملحّاً أن تكون هناك لجنة للاحتفال، لجنة واحدة من أهل الفكر والأدب والسياسة والفن تنظم احتفال الدولة بأجمعها، وتشرف على سياقاته، وتمنع أي احتفال يسيء لسمعة الكويت وشعبها.مخجلة تلك الممارسات الشبابية الهوجاء التي تسمّت باسم أعياد الكويت الوطنية، ومخجلة تلك المقاطع التي تروج على شبكات التواصل الاجتماعي وتحصد استياء الجميع الداني والقاصي. أعياد الكويت وجه حضاري للوطن، وكلنا أمل أن يأتي ما يتناسب وهذا الوطن الغالي.