التمرد الديمقراطي لتوني بلير

نشر في 01-03-2017
آخر تحديث 01-03-2017 | 00:12
الاستفتاء يتفوق بشكل دائم على جميع الآليات الأخرى للسياسات الديمقراطية وإقناع الناخبين بأن تفويض الاستفتاء يشير إلى سؤال محدد في ظروف محددة في وقت محدد، ولو تغيرت الظروف أو اكتسب سؤال الاستفتاء معنى مختلفا، لوجب السماح للناخبين بتغيير رأيهم.
 بروجيكت سنديكيت إن دعوة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الأخيرة للناخبين للتفكير مجددا فيما يتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبي وجدت صدى لها في النقاشات البرلمانية قبل الانطلاقة الرسمية لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في مارس، وهذه الدعوة تشبه قصة الملابس الجديدة للإمبرطور، فعلى الرغم من أن بلير هو شخصية لا تتمتع بالشعبية فإن صوته مثل صوت الطفل في قصة هانس كريتسيان أندرسون عال لدرجة أنه يعلو على صوت عصبة المتملقين الذين يطمئنون رئيسة الوزراء تيريزا ماي بأن مقامرتها العارية بمستقبل بريطانيا هي مقامرة مكسوة بقشرة من التبرج الديمقراطي.

إن أهمية كلمة بلير يمكن قياسها بردة الفعل الهستيرية المبالغ بها لاقتراحه إعادة فتح الجدل المتعلق بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي "بريكست" وحتى من وسائل الإعلام التي من المفترض أن تكون موضوعية فطبقا لهيئة الإذاعة البريطانية "إن دعوة بلير سينظر إليها من البعض على أنها دعوة للتصعيد: تمرد توني بلير المتعلق ببريكست".

وإن طغيان الأغلبية في بريطانيا ما بعد الاستفتاء وصل لدرجة أن مقترحا من "أحد دعاة البقاء في الاتحاد الأوروبي" لجدل عقلاني ومحاولة الإقناع يتم اعتباره على أنه تمرد، وأي شخص يشكك في سياسة الحكومة المتعلقة ببريكست يتم وصفه بشكل روتيني بأنه "عدو الشعب" والذي ستؤدي خيانته "لسفك الدماء في الشوارع".

ما تفسير جنون الشك المفاجئ هذا؟ ففي واقع الأمر إن المعارضة السياسية هي شرط ضروري لأي ديمقراطية فعالة، ولم يكن ليفاجأ أي شخص لو استمر المتشككون في بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بمعارضة أوروبا بعد خسارة الاستفتاء كما فعل القوميون الأسكتلنديون الذين استمروا في حملتهم من أجل الاستقلال حتى بعد هزيمتهم في الاستفتاء من عشر نقاط سنة 2014 كما لا يتوقع أحد أن المعارضين الأميركيين للرئيس دونالد ترمب سيتوقفون عن المعارضة ويتحدون مع أنصاره.

إن الاختلاف مع بريكست هو أن الاستفتاء في يونيو الماضي نجح في تقويض الديمقراطية البريطانية بأسلوبين ماكرين: أولاً: إن مصدر إلهام التصويت على الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بشكل عام كان مشاعر استياء غير مرتبطة بأوروبا. ثانياً: لقد استغلت الحكومة هذا الارتباك المتعلق بالقضايا من أجل الحصول على تفويض لتفعل ما تشاء.

قبل ستة أشهر من الاستفتاء لم يكن الاتحاد الأوروبي بين أهم عشر قضايا تواجه بريطانيا طبقاً للناخبين المحتملين، فالهجرة لم تكن على رأس تلك القضايا، كما أشار بلير في كلمته، والمشاعر المعادية للهجرة كانت بشكل عام ضد الهجرة المتعددة الثقافات، والتي ليست لها علاقة تذكر بالاتحاد الأوروبي. وعليه كانت استراتيجة حملة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي هو أن تفتح الباب لمشاعر الاستياء المتعلقة بانعدام التوازن الإقليمي وانعدام المساواة الاقتصادية والقيم الاجتماعية والتغير الثقافي، ولقد فشلت حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي بشكل كامل في الرد على ذلك لأنها قامت بالتركيز على السؤال الذي كان مطروحاً بالفعل في صناديق الاقتراع، وتعاملت مع تكاليف وفوائد عضوية الاتحاد الأوروبي.

إن حقيقة أن الاستفتاء لم يكن منظما وضم جميع أصوات الاحتجاج يفسر تأثيره السلبي الثاني من الناحية السياسية، فنظرا لأن حملة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي قد نجحت بالجمع بين مظالم وشكاوى مختلفة تتعامل تيريزا ماي مع الاستفتاء على أنه تفويض مفتوح، فعوضا عن الدفاع عن سياسات حزب المحافظين المثيرة للجدل– بما في ذلك التخفيضات الضريبية التجارية ورفع القيود ومشاريع البنية التحتية التي لا تحظى بالشعبية وإصلاحات الضمان الاجتماعي- حسب طبيعة تلك المواضيع ومزاياها، تقوم ماي الآن بتصوير تلك السياسات كشروط ضرورية من أجل "بريكست ناجح" وأي شخص لا يوافق على ذلك يتم اعتباره شخصا نخبويا متذمرا من دعاة بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ويحتقر الناخبين من عامة الشعب.

إن ما يزيد الأمر سوءا هو أن المخاطر الواضحة لبريكست قد خلقت عقلية الحصار، فنجاح بريكست قد أصبح مرتبطا بقدرة الأمة على البقاء، مما جعل أشد المقترحات اعتدالا من أجل الحد من خيارات الحكومة التفاوضية-على سبيل المثال التصويت البرلماني على ضمان حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يعيشون في بريطانيا- من أعمال التخريب.

وكما هي الحال في أيام الحرب فإن أي انتقاد يصبح خيانة، وهذا يفسر قيام حزب المعارضة الرئيس– حزب العمال- بالتعاون من أجل إحباط جميع الجهود البرلمانية لمحاولة تلطيف خطط ماي المتشددة لبريكست حتى فيما يتعلق بالمواضيع التي ليست موضع جدل رئيس كالسفر بدون تأشيرة، وفحص الأدوية، والتمويل لأغراض علمية، كما أن المطالبات الأكثر طموحاً من أحزاب المعارضة البريطانية الأصغر من أجل استفتاء ثان على صفقة الخروج النهائية لم تنجح حتى بين أشد المناصرين لأوروبا، حيث شعر هؤلاء بالخوف والتهديد من الجو الترهيبي ضد أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي من غير النادمين.

إن السير إيفان روجرز الذي اضطر للاستقالة في الشهر الماضي كممثل بريطانيا الدائم للاتحاد الأوروبي لأنه شكك في النهج التفاوضي لماي توقع هذا الأسبوع انفصالا "بشعا ومريرا وملتويا" بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي ولكن هذا السيناريو ليس حتميا، فهناك احتمالية بناءه أكثر قد بدأت بالظهور الآن تشبه طرح بلير، فعوضا عن محاولة التأثير على موقف ماي المتشدد في المفاوضات من غير تحقيق نجاح يذكر، كانت الأولوية الجديدة إعادة إطلاق جدل عقلاني يتعلق بعلاقة بريطانيا مع أوروبا وإقناع العامة بأن هذا الجدل هو من الأمور المشروعة ديمقراطيا.

إن هذا يعني تحدي فكرة أن الاستفتاء يتفوق بشكل دائم على جميع الآليات الأخرى للسياسات الديمقراطية وإقناع الناخبين بأن تفويض الاستفتاء يشير إلى سؤال محدد في ظروف محددة في وقت محدد، ولو تغيرت الظروف أو اكتسب سؤال الاستفتاء معنى مختلفا، لوجب السماح للناخبين بتغيير رأيهم.

وإن عملية استعادة الفهم الحقيقي للديمقراطية يمكن أن تبدأ ضمن الأسابيع القليلة القادمة، والحافز سيكون تعديلات في تشريع بريكست الذي يناقَش حاليا في البرلمان، والهدف هو منع سريان مفعول أي علاقة جديدة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي ما لم يتم اعتمادها من خلال تصويت برلماني يسمح باحتمالية الاستمرار بعضوية الاتحاد الأوروبي.

إن مثل هذا التعديل سيجعل الوضع القائم هو الخيار الآخر لو فشلت الحكومة في إقناع البرلمان بالترتيبات الجديدة التي يتم التفاوض عليها خلال العامين القادمين، وهذا يعني تجنب خيار هوبسون الذي تقترحه الحكومة الآن، وهو إما قبول أي صفقة نقوم بطرحها أو الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون الاتفاق على أي علاقة على الإطلاق.

وإن السماح للبرلمان باتخاذ قرار فيما يتعلق بالعلاقة الجديدة مع أوروبا عوضا عن ترك الموضوع بشكل كامل لماي سيستعيد مبدأ السيادة البرلمانية، والأهم من ذلك فإنه سيشّرع لجدل سياسي جديد في بريطانيا عن التكاليف الحقيقية وفوائد عضوية الاتحاد الأوروبي، وربما يقود لاستفتاء ثان فيما يتعلق بخطط الحكومة لبريكست.

ولهذا السبب بالتحديد تعارض ماي بشدة إعطاء البرلمان أي صوت ذي معنى فيما يتعلق بنتيجة مفاوضات البريكست، حيث نفترض أنها ستعوق ضم أي من تلك المتطلبات لتشريع بريكست في مارس، ولكن هذا قد لا يهم، فلو أعيد بدء جدل حقيقي يتعلق ببريكست فإن الديمقراطية ستمنعها من إنهائه.

* أناتول كاليتسكي | Anatole Kaletsky ، كبير خبراء الاقتصاد والرئيس المشارك لشركة جافيكال دراجونوميكس للبحوث، ومؤلف كتاب "الرأسمالية 4.0.. ميلاد اقتصاد جديد".

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

السماح للبرلمان باتخاذ قرار يتعلق بالعلاقة الجديدة مع أوروبا عوضاً عن ترك الموضوع لماي سيستعيد مبدأ السيادة البرلمانية

قبل ستة أشهر من الاستفتاء لم يكن الاتحاد الأوروبي بين أهم عشر قضايا تواجه بريطانيا
back to top