على صعيد «الحدوتة»، يمكن النظر إلى «يوم من الأيام» بوصفه فيلماً بسيطاً عن «جابر» (محمود حميدة)، سائق الحافلة المتجهة من المنصورة إلى القاهرة، وعلى متنها صنوف من البشر، لكل واحد منهم قصته الحياتية ذات الخصوصية. لكن القراءة الأكثر عمقاً للفيلم، الذي كتبه وليد يوسف وأخرجه محمد مصطفى، من إنتاج المخضرم حسين القلا، تضع أيدينا على رسائل كثيرة، لعل أهمها أن الحافلة تبدو وكأنها البديل المرئي للمجتمع المصري، الذي يضمّ الطوائف كافة، ابن البلد الشهم، جيل الشباب، الكبار، الكهول، العشاق، الملتزمين، المتطرفين... إلخ.

كان من المقرر أن يُجسد النجم نور الشريف دور سائق الحافلة في فيلم «يوم من الأيام»، لكنّ ظروفاً ما قادت الدور إلى محمود حميدة، وبعدما وافت المنية الشريف اتفق المؤلف والمنتج على إهداء الفيلم إلى روحه، كذلك استقرا على تغيير اسم الشخصية من «مرسي» إلى «جابر»، الاسم الحقيقي لنور الشريف، واسمه المفضل في غالبية أفلامه، مثل: «دائرة الانتقام»، «دم الغزال»، «الظالم والمظلوم»، «بئر الخيانة»، «أجراس الخطر» و«الرغبة». ومن يتابع أحداث الفيلم يستشعر فعلاً، أن روح نور الشريف، وعاطف الطيب، تُخيم على الشخصية الدرامية، التي تبدو وكأنها امتداد واقعي وإنساني لشخصية «حسن» في «سواق الأتوبيس» و«جابر» في «دم الغزال»، بالإضافة إلى أن الفيلم يتسم بنزعة إنسانية غاية في الرقة، ويُغلفه شجنٌ تلقائي لا يعرف التكلف أو التصنع، ويرجع الفضل في هذا إلى بساطة الفكرة التي تدور حول سائق الحافلة، الذي أصيب بجرح غائر نتيجة لموت حبيبته حرقاً، بعد رفض أهلها زواجه منها، وعندما التقى، بين ركاب الحافلة، الفتاة «نشوى» (هبة مجدي) التي تكاد تُصبح صورة أخرى من حبيبته، إذ أجبرتها أمها على السفر إلى القاهرة لتتزوج رجلاً ثرياً، يبذل قصارى جهده لانتشالها من المصير الذي دفع، وحبيبته، ثمنه غالياً، وأصرّ على الجمع بين الفتاة وحبيبها «خالد» (رامز أمير)، وكأنه يُصلح ما أفسده الزمن!

Ad

باستثناء التكثيف المُخل الذي لجأ إليه كاتب السيناريو وليد يوسف، وانعكس سلباً على شخصيات كثيرة ظهرت، واختفت، كالأشباح، جاءت الرؤية السينمائية للمخرج محمد مصطفى رائعة، خصوصاً عندما تعمّد إسناد شخصيتي «انشراح» و«نشوى» إلى ممثلة واحدة (هبة مجدي) للإيحاء بالتطابق الكبير بين قصتيهما، وعاد ليُبدع مع احتفاظه بطبقة صوت محمود حميدة في مرحلتي المراهقة وتقدم العمر. وربما بدا أن تجاوز العجز وقلة الحيلة، وإنقاذ الحب المجهض، هو الخط الرئيس للأحداث لكنه لم يكن الوحيد، الذي مسّ شغاف القلوب، فالرحلة التي تُذكرك برحلة بطل فيلم «أنا وأنت وساعات السفر»، تزخر بالكثير من المواقف الإنسانية التي تُدمي المشاعر، فضلاً عن أن المعالجة الراقية، نأت بالفيلم عن الوقوع في فخ الخطابة أو المباشرة، بدليل أنك لن تشاهد الصورة التقليدية للإرهابي المتعارف عليه، ولن تمنع نفسك من الربط بين الحافلة والوطن، وستتوقف طويلاً أمام الشاب «خالد»، الذي يستقل دراجته البخارية، ويحاول اللحاق بالحلم، فيما يسعى «سائق الحافلة» إلى الوصول بالجميع إلى المحطة الأخيرة، وبث روح الأمل، وتأكيد أهمية الحب والصداقة كأساس للحياة، وهو المعنى الذي تضمّنته أغنية «دبدب في الأرض» غناء مدحت صالح وكلمات أحمد حداد وألحان وتوزيع محمود طلعت واضع الموسيقى التصويرية العذبة للفيلم، الذي تميز بالبساطة الأخاذة، بفضل المونتاج السلس (سالم درياس)، وتناغم عناصر فنية عدة، كالديكور (عماد الخضري) والملابس (رفعت عبد الحكيم) أو التصوير (مروان صابر) الذي تنوّع بين اللقطات المقربة المُشبعة واللقطات العامة التي التقطت من زاوية «عين الطائر» Eye bird angle، وأسهمت بالإضافة إلى توظيفها الجمالي، في تكريس توظيف درامي مبتكر، بعدما أظهر الحافلة، وكأنها تُبحر في رحلة الحياة، قبل أن ترسو على مرفأ الأمن في انتظار التغيير! جاءت الأغاني، سواء «أنا لحبيبي» لفيروز أو «راح» و«في يوم في شهر» لعبد الحليم حافظ بمثابة خطوة استهدفت الربط بين الرومانسية وزمن عبد الحليم، مثلما فعل محمد خان ورؤوف توفيق سابقاً في فيلم «زوجة رجل مهم». إلا أن الربط بدا متعسفاً، مع الاعتراف بأن كلمات «في يوم في شهر» تكاد تنطبق على أزمة البطل «جابر»، الذي يرى أن «عمر جرحه أطول من الأيام»، ويتمنى أن «تهدى الجراح وتنام»!