خور عبدالله مرة أخرى ... الأبعاد الكارثية لقرار البرلمان العراقي
لم أكن أنوي إعادة الكتابة في هذا الموضوع وكنت أظن أن ما كتبته في مقالي السابق يكفي، ولكن قرار البرلمان العراقي الذي صدر يوم الخميس 23 فبراير 2017 هو الذي صعد الموضوع وأرغمني على معاودة الكتابة، بالإضافة إلى الحملة الإعلامية العراقية المحمومة التي لا تزال تستهدف الكويت.فهذا القرار يدعو إلى تباحث البرلمان العراقي مع حكومته في تفاصيل الاتفاقية التي أبرمها العراق مع الكويت "ومدى الأضرار التي لحقت بالعراق"، حسب ادعائه، ومحاولة تعديلها، ويتضح من الاطلاع على هذا القرار مدى خطورته وأبعاده الكارثية، وأضيف أنه إذا كان يعرف عن العراق بأنه بلد الإرهاب والفساد، فإنه بات يعرف، وكما يشهد تاريخه، بدأبه على تمزيق اتفاقياته وتعهداته الدولية مع الآخرين.وبداية أقول إنني لا أستبعد على الإطلاق أن يكون هذا القرار قد جاء بناء على اتفاق خفي بين الحكومة والبرلمان، وشكلا من أشكال المراوغة والألاعيب السياسية التي يجب ألا تنطلي على أحد، فالحكومة ولكي تتجنب الانتقادات التي تعرضت لها في السابق بشأن موضوع الخور، قامت هذه المرة بالاتفاق مع البرلمان لكي يصدر بدوره هذا القرار مما يلزم الحكومة باتخاذ الإجراءات الكفيلة لتنفيذه من بينها التفاوض مع الكويت. وعلينا بعد ذلك أن نتخيل مدى التعقيدات الخطيرة المترتبة على تنفيذ هذا القرار الذي من شأنه، من بين أمور أخرى، تعكير أجواء العلاقات بين البلدين، وإعادتنا إلى تلك الأيام التي كانت موجودة وقت مطالبة قاسم بالكويت عام 1961، وأيام تصعيد الصامتة عام 1973 وكذلك في الفترة التي سبقت الغزو الغاشم عام 1990، وهذا ليس بغريب فقد تعودنا عليه من العراق.
وحديثي هنا موجه إلى ذوي النوايا الطيبة من أبناء بلدي الذين وثقوا وصدقوا بيان مجلس الوزراء العراقي واعتبروه حسما للموضوع، مع أن الحقيقة والواقع يؤكدان خلاف ذلك، فهذا البيان لم يكن مريحا على الإطلاق ويبعث على الشك والريبة ولا يمكن الوثوق به، وتمت صياغة عباراته بطريقة خبيثة، وأنهم لو تمعنوا بعباراته لعدلوا عن قناعاتهم.وفيما يتعلق بتلك الأبعاد الكارثية فهي كثيرة ومتنوعة، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:1- من حيث الأصل والمبدأ، لا يملك البرلمان العراقي أي حق بإصدار قرار يحمل المضامين التي ورد النص عليها فيه، فالأمور المنصوص عليها لا تخص العراق فقط، بل، ونظرا لكونها تتعلق باتفاقية دولية ثنائية، تتطلب تداول الرأي بشأنها مع الدولة الأخرى ذات العلاقة، وهي الكويت، وهذا يعتبر من البدهيات المستقرة في تاريخ العلاقات والاتفاقيات الدولية، وما يقدم عليه العراق في هذا الصدد يعتبر تدخلا فجا وسمجا في شؤون الكويت. 2- من المضحك المبكي أن يطالب البرلمان بتعديل الاتفاقية، وهو الذي صادق عليها منذ سنوات قليلة مضت. لذلك أتساءل عن برلمان لم يكتف بعدم احترام حقوق الآخرين، بل ذهب إلى عدم احترام نفسه بنقضه ما التزم به هو نفسه. والحقيقة أننا لا نجد أي غرابة في ذلك، فالعراق مشهود له كما أسلفنا بالإخلال بتعهداته وتمزيقه اتفاقياته الدولية مثلما فعل في اتفاقية "شط العرب" مع إيران، واتفاقياته مع الكويت وغيرها. لذلك فإنهم بفعلتهم المشينة تلك يكررون ما أقدم عليه صدام حسين نفسه وليس هناك فرق بينهما.3- يهدف القرار من تعديل الاتفاقية إلى إخضاع الجزء التابع لسيادة الكويت في الخور إلى العراق، بحيث يصبح الخور بأكمله تابعا للعراق ويحرم الكويت من أي حق، وما يدعو القرار إليه يعبر عن شذوذ لا نظير له، فالخور في وضعه الحالي قد تم تنظيمه بمقتضى اتفاقية موقعة بين البلدين عام 2013، وصادق عليها البرلمان العراقي وتعتبر تجسيدا وتكريسا لاتفاقية مبرمة منذ أكثر من قرن، وهي الاتفاقية الأنجلوعثمانية الموقعة عام 1914، وقد تم التأكيد على ما جاء فيها ثلاث مرات لاحقة إضافة إلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. ومن العجب العجاب أن التعاون بين جميع دول العالم قد استقر على تسوية قضاياه الحدودية مرة واحدة، ما عدا العراق الذي شذ تماما عن هذه القاعدة، فهو الذي أبرم أربع اتفاقيات حدود مع الكويت، ثم يعود ويتمرد عليها في كل مرة.4- إذا كان العراق يطالب بسيادته الكاملة على الخور بما في ذلك الجزء الخاص بالكويت، فهذه المطالبة وإن كانت تمثل قمة في الهراء والسماجة، فإنني أقول في المقابل إنه قد يكون للعراق حقوق أخرى في مناطق عديدة من العالم مثل قناة بنما أو مضيق البوسفور، أو باب المندب، أو قناة السويس أو أي بقعة من بقاع المعمورة، أما أن يكون له سيادة على قطرة ماء من الجزء الكويتي من الخور، أو ذرة من تراب الكويت، فهذا يعتبر ضرباً من ضروب الخيال.والواقع أن المثالب التي شابت هذا القرار لا تعد ولا تحصى، وتعبر عن وضع شاذ يجب قطع دابره، فالسماح باستمراره يعني بكل بساطة تكرار الكوارث والمآسي وغيرها من مصادر الشر التي ألمت بالبلدين من جراء تلك الأطماع العراقية. لذلك فإن التحرك الكويتي يجب أن يكون حاضراً بقوة وبدون أي تردد، ويأتي ذلك من خلال التحرك الدبلوماسي والتشريعي والتنفيذي، والتحرك الدبلوماسي يكون من خلال التقدم بشكوى ضد القرار أمام الجهات الدولية والإقليمية المختصة كالأمم المتحدة عن طريق مجلس الأمن، ومجلس التعاون، والجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها من المنظمات الدولية ذات الصلة. والأهم من ذلك أن تقوم الدولة بتضمين شكواها قائمة بأسماء المحرضين المثيرين للأطماع العراقية من أمثال الشهرستاني والفتلاوي وعالية نصيف ووزير سابق اسمه عبدالجبار وغيرهم من مثيري الأطماع، والطلب باتخاذ العقوبات في حقهم باعتبارهم مجرمي حرب أو مشاريع مجرمي حرب، فأركان تلك الجريمة وأدلتها متوافرة في حقهم، فما يدّعون ويروجون له من خلال تهييجهم للجماهير يعتبر عدوانا وتحريضا عليه، فالعدوان يعتبر جريمة دولية ومعاقبة مرتكبيه مستحقة وواجبة.ومن حق الدولة على الصعيد العالمي اتخاذ الإجراءات المطلوبة في حق المذكورين، ولها أن تصدر التشريعات الوطنية الكفيلة بمعاقبتهم، وهذه الإجراءات مشروعة وتتفق مع القوانين الدولية، والأهم من ذلك أن تلك العقوبة لا تكون مقصورة على القوانين الدولية بل تمتد وتشمل كذلك السلطات الوطنية العراقية، وليس هناك أي غرابة في ذلك، فالمسؤولية تقع أيضا على تلك السلطات بإصدارها التشريعات والأنظمة الوطنية التي تضمن معاقبة مواطنيها من مثيري الفتن وغيرهم باعتبار أن ذلك يقع في مصلحة العراق أولاً وأخيراً، ويحقق له فائدة محضة، ويجنبه شرور الكوارث والمآسي التي حلت به.لذلك أنصح بكل صدق ومحبة ومن أعماق قلبي البرلمان العراقي أن يبادر بلا تردد وفي أسرع وقت إلى إصدار مثل هذا التشريع الحضاري الذي سيضع العراق في مصاف الدول المتحضرة الراقية بدلا من إصداره قراره البائس.