السعادة ضرورية، نفيسة لكنها غير نادرة، مجانية لا تافهة، يظن الناس أنها تُنال بالعناء وتبقى بالشقاء، فقالوا إنها جائزة يفوز بها المكافح، بيد أنها كالنفس تأتيهم بالإلهام لا بالإرغام، فعسّروا السهل، ويسروا الصعب، بمعاملتهم العامة والخاصة، فسوفوا فعقدوا فخابوا، لذا سنقرأ الواقع، وسنكتب الافتراض، بغية اكتشاف أسباب السعادة، ولنعرف ما إن كانت عادة أم عبادة.

هي ليست نشوة انتصار متفلتة، أو رعشة بين الضحكات متفتتة، بل هي تفاؤل رائق وحسن ظن بالله دائم، هي هجر الماضي القاسي وإهمال مقلقات المستقبل الآتي، أليست هي الرضا بما مضى؟ والعمل بما يبقى؟ فالسعيد فطين إلى فرص الدنيا الفانية، يسعى إلى فراديس الخلد الباقية.

Ad

وجدت طفلاً هندياً ينثر رقائق البطاطا بالسوق خلف أبويه المنتبهين إلى أرفف السلع، فشعرت بخشيته من توبيخهما، فوثبت على الأرض ولملمت الفتات بسرعة معه، فابتسم دون شكر، وحبس فارق اللغة بيننا امتنانه، فهذا الطفل أشعرني بسعادة لطيفة، من موقف بسيط، بدأناه بصمت، وأنهيناه بذكرى.

ولما مررت بزوجين «من عيالنا»، إذ بالحرمة تقفز على ظهر بعلها من الخلف وتخنقه بذراعها الأيمن وتعضه بكتفه الأيسر، ليتكبكب حوالينا الناس بلا فائدة، فزجرتهما وهرعت لأجر الرجل بعيداً عنها، فانفجر بين الجمهور آدمي ضخم أكبر منا نحن الثلاثة، فقالت المرأة: «يا أبي تعال»، وكان يبدو أشرس من فلذة كبده، فعلمت أن الطين ازداد بلة، الموقفان ناقض كلاهما الآخر، فلنعكسهما ذهنياً ولنتخيل خلاف ما جرى:

اكتشف الوالدان القذارة التي نثرها ابنهما في أرجاء السوق، فوصف الوالد الأم بالمهملة ونعتته باللامبالي، ومر شخص ووصفهم كلهم بمقيمي النكد! أما تلك فسيست زوجها لديوان أبيها، وتناقشا بشأن الإشكاليات بينهما برزانة بعد استكانة، وقس على مفارقات كهذه مواقف إجراءاتنا الحكومية، ومعاملاتنا البنكية، ونشاطاتنا البرلمانية، ودراساتنا الأكاديمية، فيبدو أن سبب السعادة الأكبر هو الرفق المناقض للعنف.

كثرت أحاديث الرفق، فلعل أنسبها لهذا المقال، قول النبي العدنان: «إن الله رفيق يحب الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». مما يذكرني بقوله تعالى: «مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى»، فهذا الدين الرفيق، لا يريد التعجيز ولا التضييق، فالله شرح صدر عباده، لعادة السعادة بجعلها عبادة، بقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً». حقاً السعادة خيار لا خيال.