إن الانشغال بالسياسة، نظرية وفعلا، والشك بقدرة العقل على أن يعرف، قادا إلى "ما بعد الحداثة"، ثم إن خيبة الحلم الاشتراكي، وخيبة النشاط النظري والفعلي لدحر الرأسمالية الليبرالية قادتا "ما بعد الحداثة" إلى جعل اللغة مركزاً لنظرية المعرفة. وبقدر ما كان الوعي، واللغة ضمناً، قادراً على الإدراك وعلى الفعل لدى الحداثيين العقلانيين، كان مقتصراً على الفعل، ولا شأن له بالمعرفة لدى ما بعد الحداثيين اللاعقلانيين.

ولنقرب الموقف من اللغة: بالنسبة إلى الحداثيين، في اللغة ثمة وسيلة نسميها في العربية "الاستعارة"، أو القناع the mask بمصطلح نظرية المعرفة، تتضمن اعترافاً بأن الكلمات ليست مباشرة في الدلالة، قد تنطوي على نسيج ذي طيات عدة (دلالات عدة)، ولذا تتطلب تعرية القناع unmasking، الذي يعني التفسير وملاحقة المعنى.

Ad

هذه التعرية هي سبيل معرفة للواقع. خلافاً لهذا يرى الـ "ما بعد حداثيين" أن التفسير لا يوصل للواقع الحقيقي، واللغة لا تتواصل إلا مع مزيد من اللغة، وتقاوم كل مسعى خارجها، بتعبير دريدا.

إنها داخلية، وذات مرجعية ذاتية، وما من شيء يقودها إلى خارجها، ولذا فما من معيار خارجها يميز بين ما هو حرفي أو استعاري فيها.

إن "التفكيكية" لذلك عملية غير متناهية في الكشف عن تواصل الأقنعة. اللغة باختصار ليست لمعرفة العالم الذي نعيش فيه. ولك أن تتخيل حال الـ "ما بعد حداثي"، مع نظرية معرفة تقول إن اللغة غير موصلة، ومع عقل عاجز، ومع نظرية سياسية ترى دون لبس فشل الحلم الاشتراكي نظرية وتطبيقاً، مع أنهم لم يتركوا وسيلة لتحقيق هذا الحلم اليقيني، عبر فكرة التطور أو الثورة، عبر فكرة التثوير الصناعي أو الزراعي، عبر انتظار انهيار الرأسمالية الليبرالية من داخلها، أو عبر الإرهاب من خارجها. لابد أن أسلحته اللفظية أصبحت قادرة على التفجر، غضباً، يأساً واستياء.

إن قراءة فوكو وحده كفيلة بملامسة هذه الوقفة على حافة الهاوية. فامّحاء النزعة الانسانية، وامحاء الذات، و"موت الإنسان" هي أبرز تطلعاته (لك أن تراجع كتاباً للمغربي عبدالرزاق الدواي: "موت الإنسان" لدى هايدغر، ليفي ستروس وفوكو). و"موت الإنسان" ليس إلا دعوة تشبه الخاتمة من سلسلة دعوات لميتات لم تهدأ في تطلعات المابعد حداثيين: موت المؤلف (رولان بارت)، موت الفن (مبولة دوشامب)، موت الشعر (أدورنو)، نسف دور الأوبرا (الفرنسي Boulez)، (موت الرواية (الأميركي Sukenick).

ويبدو أن هذه الميتات لم تترك إلا النزر اليسير من الإماتات بين يدي المابعد حداثيين العرب، حتى إن الكاتب السعودي الغذامي تعجل الأمر، فأعلن في مقدمة كتابه "النقد الثقافي" أنه أخذ طائرة إلى مؤتمر في تونس ليعلن من فوق منبره "موت النقد الأدبي".

طبعاً، هذه الخيبات المتلاحقة لدى شريحة من المثقفين الغربيين، التي انتهت بهم إلى إعلان "موت الإنسان"، لم تمس المثقف العربي من قريب أو بعيد. ولكن شريحة منهم، منذ ستينيات القرن الماضي، استروحت قطف آخر ثمارها، فأعادت الدعوات العدمية على لسان عربي فصيح فبدت مثيرة، خاصة داخل أروقة الجامعة المنهارة أصلا، وداخل أوساط أدبية خرجت من رحم صحافة الإعلام الرسمي الرخيصة، وفي تربة عقل يباب، وروح هرستها الأوهام التي فرضتها السلطات القمعية والأحزاب القمعية والشارع القمعي، ولغة فقيرة أحاطتها بالرعاية دعوات "استحالة الدلالة"، فأفرغتها كلياً من الحياة... حتى أصبح المشهد "ظاهرة صوتية" ببلاغة مصوتة، وفراغ رأس تعبث فيه الريح.

لقد أتقنت هذه الشريحة القمع (أسوة بالما بعد حداثيين الغربيين) داخل الجامعة، فلن يفلت طالب من "التفكيك" و"البنية" و"النسق"..، واستحوذت على كل وسائل النشر والإعلام (صحف، مجلات، دور نشر، إذاعة وتلفزيون..) فمن يجرؤ، منذ الستينيات، على ما بعد حداثتها، فيكتب بلغة عربية سليمة، جميلة وذات معنى؟

العرض السريع الذي قدمته هيكل عظمي، كما أشرت في أول الحديث، ومن رغب بتزويده بالدم واللحم، فليرجع إلى كتاب بالغ الأهمية للبروفيسور الأميركي Stephenn Hicks بعنوان Explaining Postmodernism.