ثمة مفارقة لا تخطئها العين في الساحة المحلية ترتبط بموضوعة الفساد، فهي الأكثر تداولا وسخونة وفي الوقت عينه الأقل دراسة وفحصا، وعلى الرغم من التلاوين المختلفة للفساد فإن هناك إجماعا على اعتباره انتهاك المرء في القطاع الرسمي أو الأهلي المعايير المقبولة من أجل المصلحة الشخصية مع ما يصاحب ذلك من إنزال الضرر بالآخرين سواء أكان معنويا أو ماديا.

وتعريف شامل كهذا يتوكأ على البنية الاجتماعية، وبمعنى آخر فإنه يشدد على أن الفساد يكتسب جوهره في مكان وزمان معينين، فعلى سبيل المثال في عهد أحد وزراء الصحة السابقين كان العلاج الخارجي في المقام الأول طريقا للسياحة والسفر، وكان الداني والقاصي يعرفان هذا الأمر، ولكنه يعد في نظرهما مقبولا في زمن الرخاء وبحبوحة العيش!

Ad

فالمعايير الاجتماعية لكونها محكومة بالتبدل والتغير فإن المقبول والممنوع في السلوك الاجتماعي يصيبهما الانقلاب والتحول بمرور الزمن، ولذلك ليس مستغربا أن يدين وزير الصحة السابق إياه الفساد بوصفه خطيئة أخلاقية، وينظر إلى سلوكه على أنه منزه عن الفساد، وهذه في اعتقادي الإشكالية العويصة في موضوعة الفساد، ففي الفساد هناك ما هو أكثر من اللونين الأسود والأبيض، وأبعد من هذا وأهم أن البشر لا يعتنقون في المكان والزمان نفسه المعايير الأخلاقية ذاتها.

ولكن الأشد خطورة في الفساد يكمن في تحوله إلى سلوك اجتماعي متجذر ومقبول، ومن ثم تخفت الأصوات التي تدينه، فتتلاشى وتذوب المعايير التي وفقا لها يوصم شخص بأنه فاسد، وفي بيئات كهذه يغدو الفساد مؤشرا قويا على غياب العدالة الاجتماعية، وانعدام المحاسبة والشفافية وجمود النمو الاقتصادي وتهتك الضمير المجتمعي.

وليس صحيحا القول إن الفساد ليس سوى قضايا منبتّة الصلة عن بعضها، وإنه لا يعدو عن كونه مشكلة طارئة عابرة يمكن استئصالها جراحيا كما لو أنه ورم خبيث بإزالته يتعافى الجسد ويستعيد صحته، بل على النقيض من ذلك هو ثقافة وأسلوب حياة تسود وتستشري حينما تتعفن مفاصل الدولة والمجتمع، فالفساد تماما كالمرض المعدي ينتقل بسرعة للمرء بمجرد الاحتكاك به أو مخالطته، وعلى النحو الذي يصنع فيه الفساد فسادا جديدا.