كيف نحد من تجاوزات الإعلام؟

نشر في 05-03-2017
آخر تحديث 05-03-2017 | 00:11
 ياسر عبد العزيز إن الصدامات التي تقع بين وسائل الإعلام والسلطات الدستورية في الدول العربية تؤدي إلى تداعيات خطيرة، وبعض هذه التداعيات يؤثر سلباً في حرية الإعلام وحق الجمهور في المعرفة والمصلحة الوطنية.

هناك نظم عربية تنتهك حرية الإعلام، وترسم خطوطاً حمراء للعاملين فيه، وتسعى إلى تسخير الآلة الإعلامية لتؤدي أدوار الدعاية لمصالحها، ومع ذلك، فإن الأخطاء التي ترتكبها وسائل الإعلام عادة ما تضعف مواقفها، وتسهل انقيادها للسلطات الاستبدادية.

لكي تتعزز الثقة بين الجمهور وصناعة الإعلام، يجب أن تكون هناك آلية للشكوى في حق المحتوى المثير للجدل، كما يجب أن تكون هناك وسائل للمحاسبة.

في المجتمعات الرشيدة ثمة أربعة عناصر فعالة تنتظم للنهوض بتلك المسؤولية، سنسميها هنا "مربع المساءلة والضبط".

أول عنصر في هذا المربع هو القانون؛ إذ تتضمن قوانين الجزاء العام، وقوانين الاتحادات والنقابات، عقوبات بحق بعض أنماط الأداء الصحافي والإعلامي المسيئة.

يلجأ المواطنون في معظم دول العالم إلى القضاء عندما يشعرون بوقوع انتهاكات في حقهم بواسطة الممارسات الإعلامية، وكثيراً ما تحكم المحاكم بأحكام رادعة في قضايا ذات طبيعة إعلامية.

يمكن تفهم أهمية الدور الذي يؤديه القضاء، خصوصاً في قضايا تتصل بالتحريض على العنف أو التمييز وإثارة الكراهية، لكن هذا الدور يبدو مثيراً للجدل حين يتعلق الأمر بالقضايا التي تتصل بالتعبير عن الرأي أو كشف الفساد، كما أن بعض الحكومات تستخدم الأدوات ذات الطبيعة القانونية أحياناً من أجل إخضاع الصحافة وتطويع أدائها.

من الضروري أيضاً معرفة أن الجسم القضائي غير مؤهل بطبيعته لمقاربة التناول الإعلامي في جوانبه الفنية، كما أن التعويل على القضاء فقط لحسم الخلافات التي تنشأ بسبب المحتوى الإعلامي يمثل إرهاقاً له من جانب وتعطيلاً لحل النزاعات الإعلامية من جانب آخر.

لذلك، فإن العنصر الثاني في "مربع المساءلة" يؤدي دوراً مهماً في هذا الصدد؛ وهو عنصر "الهيئات الضابطة". تعرف التجربة الإعلامية الغربية نمط مؤسسات الدقة العامة، التي تنشأ بصورة مستقلة عن الحكومات عادة، وتضمن تمويلاً لا يمس بالاستقلالية، وتقوم بأدوار متابعة الأداء الإعلامي، وتلقي الشكاوى من المتضررين من الممارسات الإعلامية، وبحثها، والوصول إلى تقييمات وقرارات في شأن مسؤولية وسائل الإعلام والإعلاميين المعنيين بصددها.

وإضافة إلى صلاحيات الترخيص لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية، هناك صلاحيات آخرى تمتلكها تلك الهيئات؛ مثل فض النزاعات، وصيانة حقوق الأطراف المتصلة بالأداء الإعلامي، وتوقيع اللوم المعنوي، ونشر الأخطاء، وإلزام الوسيلة الملامة بالتصحيح والاعتذار ونشر الردود. كما يمتلك بعضها سلطة توقيع عقوبة إيقاف الصدور أو البث بصورة دائمة أو مؤقتة.

تضمن تلك الهيئات تنظيم الأداء الإعلامي وبقاءه ضمن أطر متفق عليها، وبعيدا عن إثارة المخاطر والفتن من جهة، والحفاظ على حرية التعبير وفي مقدمتها حرية وسائل الإعلام كضمانة للمجتمع الديمقراطي من جهة أخرى.

ومن أبرز تلك الهيئات مكتب الاتصالات بالمملكة المتحدة (OfCOM)، واللجنة الفدرالية للاتصالات (FCC) بالولايات المتحدة، والمجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع بفرنسا (CSA).

ورغم الفاعلية التي يتسم بها عمل مثل هذه الهيئات، ورغم قدرتها الواسعة على ضبط الأداء الإعلامي في ما يتصل بالقضايا التي تتصدى لها، فإن طاقتها تبدو قاصرة عن الوفاء بكل مهام الضبط وإخضاع الأداء للتقييم. ومن هنا تبلور أداء العنصر الثالث في مربع "المساءلة والضبط"، والمقصود به "المساءلة المجتمعية"، وهي نوع من المساءلة التي تعتمد على الجهود غير المركزية، المتمثلة بحزم من الأنشطة، التي تستهدف الحد من الممارسات الإعلامية والصحافية الضارة عبر المجتمع، وليس عبر السلطات أو الاتحادات المهنية أو الوسيلة الإعلامية ذاتها.

يمكن أن نجد هذا النوع من المساءلة والمراجعة في حملات على وسائط التواصل الاجتماعي، تستهدف نوعاً معيناً من الأداء أو ممارسة بعينها، كما يمكن أن نجده في بعض التظاهرات والاحتجاجات، أو حتى في تعليقات المشاهدين والمستمعين والقراء.

تظهر أيضاً المساءلة المجتمعية في بعض الجمعيات التي تنشأ بغرض حماية حقوق جمهور وسائل الإعلام، على غرار تلك التي ينشئها أفراد بغرض حماية مستهلكي السلع والخدمات.

تثبت آلية "المساءلة المجتمعية" فاعلية، خصوصاً في الأوقات التي يزدهر فيها النقاش العام، ويتبلور حول أهداف وقواعد وقيم معينة.

أما العنصر الرابع في مربع "المساءلة والضبط" فليس سوى "التنظيم الذاتي"؛ وهو نسق من الممارسات والمؤسسات والآليات التي تطورها صناعة الإعلام بنفسها من أجل تعزيز أدائها وضبطه وتقويمه.

من أهم آليات "التنظيم الذاتي" لجان التأديب في الاتحادات المهنية (النقابات)، التي تتخذ بعض القرارات، وتوقع عقوبات تأديبية، في حال وجدت أن الممارسة الإعلامية تنطوي على مخالفة لمواثيق الشرف والأكواد المهنية التي تتبناها النقابات، وتُلزم به أعضاءها.

ومن بين عناصر المساءلة الفعالة أيضاً ضمن "التنظيم الذاتي" قيام بعض مالكي وسائل الإعلام بإنشاء كيانات أو منظمات، تكون من بين مهامها نظر الشكاوى بحق أنماط الأداء المثيرة للجدل، واتخاذ قرارات بشأنها، على قاعدة الالتزام الطوعي. ويصدر بعض هذه المنظمات والكيانات أيضاً مواثيق أو مدونات لتعيين الممارسات السلبية، وتحديد العقوبات التي يمكن اتخاذها بحقها، عبر آلية الالتزام الطوعي الذاتي.

وفي دول متقدمة مثل ألمانيا والدنمارك ثمة ما يُعرف بـ"مجالس الصحافة"، وهي هيئات تنشأ انطلاقاً من الالتزام الطوعي بين الجماعة الصحافية أو مالكي وسائل الإعلام، وتقوم بالدور نفسه بفاعلية في كثير من الأحيان.

لا يقتصر الأمر على الاتحادات المهنية وغرف الصناعة ومجالس الصحافة فقط، لكنه يمتد ليصل إلى قلب الوسيلة الإعلامية ذاتها.

لذلك نحن نعرف أن وسائل الإعلام الكبرى توفر "مدققاً للشكاوى" أو "محرراً للشكاوى"؛ وهو شخص يختص فقط بتلقي شكاوى الجمهور من بعض الموضوعات التي تنشرها الوسيلة وفحصها والرد عليها، كما تحرص وسائل أخرى على تطوير أكواد مهنية أو أدلة تحريرية ملزمة للعاملين فيها.

الإعلام العربي في حاجة ماسة لتطوير آليات لضبط أدائه وتقويمه، وكلما كانت تلك الوسائل ذاتية وطوعية تعززت الحريات وتحسنت الممارسات.

* كاتب مصري

back to top