ما هذا الدافع الغلاب الذي يجعل شاباً متعلماً يافعاً لا يشكو ظلماً ولا مخمصة ولا بطالة، يفضّل الموت على الحياة؟! وما سر هؤلاء الشباب الانتحاريين؟! وما التفسير؟ وما التبرير؟تقرأ وتسمع: من يقول إن هؤلاء الشباب مخلصون، صوامون، قوامون، غيورون، هزهم ما يرونه في مجتمعاتهم من ردة فكرية، وتحلل خلقي، وفساد اجتماعي، واستبداد سياسي، واستطالة العلمانيين، وتبجحهم بباطلهم، وتسلطهم على أجهزة الإعلام لنشر أفكارهم المستوردة، وتساهل الحكام معهم، واضطهاد حملة الفكر الإسلامي السليم، والتضييق عليهم، لذلك خرجوا على مجتمعاتهم انتقاماً وثأرا، فهم طلاب إصلاح أخطؤوا الطريق!
وقد تقرأ وتسمع من يقول: ما دفع هؤلاء الشباب إلى التضحية بالذات إلا ردة الفعل تجاه مظالم الغرب التاريخية، وحتى اليوم للمسلمين، في: فلسطين، والعراق، وسورية، وأفغانستان، ومؤامراتهم الخبيثة على الإسلام والمسلمين، فهم إنما ينتقمون من الغرب، ويثأرون للإسلام والمسلمين، جزاء وفاقاً، والبادي أظلم!وقد تقرأ وتسمع من يعلل الظاهرة الإرهابية، بغياب الحريات، وبطش السلطات، وتفشي الفساد، والتنكيل السيئ بالمعارضة والقمع، وعليه فإن اندفاع هؤلاء الشباب إلى مهاوي الهلاك، إنما يأتي كردة فعل لعنف السلطة وبطشها بالإسلاميين، وتعذيبها لهم في سجونها!وأخيراً: هناك من يفسر الظاهرة بالإحباط العام، وانعدام العدالة الاجتماعية، وانتشار البطالة، وسلسلة الهزائم التي منيت بها الأمة العربية، إضافة إلى فشل مشاريع التنمية والنهوض العربية، وعليه فإن هذا الجنون الانتحاري الذي ابتلي به هؤلاء الشباب يعد نوعاً من انتقام الذات الجريحة من نفسها بسبب أوضاعها المتردية، مقارنة بماضيها الزاهر! في تصوري أن كل هذه التبريرات للظاهرة الانتحارية مضللة وخادعة، ولا تعين على تشخيص سليم يعين على معالجتها، بل يعمل على استفحالها، بإضفاء نوع من المشروعية والبطولة على أفرادها، والتماس معاذير تبريرية لها، والتبرير أخطر من التفجير أحياناً، وإن تصوير المفجرين، كطلاب للإصلاح وأهدافهم نبيلة لكنهم ضلوا السبيل، تصوير خطير على مستقبل شباب الأمة.وقد يتساءل أحدهم: هل تنكر انتشار الفساد والمظالم، وتفشي البطالة وغياب العدالة والحريات، وتردي الأوضاع، وبؤس الأحوال، وانتهاك الكرامات؟! لا، لست أنكرها أسباباً في تردي الأوضاع، وتصاعد الاضطرابات في مجتمعات عربية، وفي طغيان مشاعر الإحباط لدى بعض الشباب، ولا أنكرها أسباباً للتمرد السياسي والاجتماعي، وظواهر العنف والتعصب، وأوضاع التخلف، لكنها ليست أسباباً لظاهرة التفجير، لأن هذه الأوضاع المضطربة موجودة في مجتمعات عديدة، ولم تنتج مفجرين، قد تنتج متمردين ولصوصاً، ومجرمين، والفرق بعيد بين المجرم والانتحاري، المجرم يحب الحياة، وفِي سبيلها يسرق وقد يقتل، لكنه لا يفجر نفسه، أما الإرهابي فيكره الحياة، ويستعجل الآخرة، وفِي سبيلها يفجر نفسه وصولا لحياة يراها أبقى وأنقى وأبهى!إذاً ما تلك القوة الغلابة التي تجعل الإنسان يترك هذه الحياة، ومباهجها، ويضحي بنفسه؟! إنها قوة العقيدة، عقيدة الجهاد والاستشهاد والفوز بالجنة، هذه هي القوة الوحيدة التي تجعل شاباً في عمر الزهور يسترخص الحياة، ويزهد في مباهجها، ليلبس حزاماً مفجراً، ويقدم غير هياب مفجراً نفسه في الآخرين، "الفوز بالجنة" هو الهدف الذي صرح به انتحاري مقهى كوستا ببيروت (حسن العاصي 25 سنة) الذي فشل في تنفيذ التفجير ليقبض عليه، ويعترف أمام القاضي بأنه أراد "الدخول إلى الفردوس"، وعندما سأله القاضي إن كان ما زال مصراً على تنفيذ التفجير أكد: "أجل وسأحظى بالجنة"، ولهذا السبب لا تفلح برامج مراكز المناصحة في إعادة تأهيل من ترسخت عقيدة الجهاد المشوهة في نفوسهم.إنها عقيدة الجهاد والفوز بالجنة الضالة، هي التي تجعل هذا الشاب مصمماً على عمله الإرهابي، ولا تقل لي أسباباً سياسية أو اقتصادية، ولا بطالة أو غياب حرية وعدالة، فمجتمعات كثيرة تعانيها ولم تنتج انتحاريين. ختاماً: مثل هؤلاء الضالين، كالذين قال المولى تعالى فيهم "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً"، إنها عقيدة الجهاديين الضالة والمنحرفة، تدعي زوراً نصرة الإسلام، وتفجر المسلمين كل يوم.* كاتب قطري
مقالات
انتحاري «كوستا»
06-03-2017