الشاعر اللبناني علي حمام: يحضرني الحزن دائماً في لحظة الكتابة

نشر في 09-03-2017
آخر تحديث 09-03-2017 | 00:00
رغم أن نتاجه الشعري لا يتعدّى المجموعتين «بلا قصد تشتهيك العصافير» (2005)، و«شوارع تطفو كغريق» (2015)، حقّق الشاعر اللبناني علي حمام في السنوات الأخيرة حضوراً في أي أنطولوجيا وُضعت حول الشعر اللبناني باللغات الأجنبية، فقد ترجمت قصائده: «بوسع قلبي» إلى اللغة البولندية (ترجمة يوسف شحادة)، «أصوات لبنانية راهنة» إلى الفرنسية (ترجمة صباح زوين)، «قلائد الذهب» إلى الإنكليزية والرومانية (ترجمة منير مزيد). ذلك إلى جانب مشاركته في أمسيات شعرية في لبنان والبلاد العربية.
اليوم، يعكف على إصدار مجموعته الشعرية الثالثة التي تندرج ضمن خط قصيدة النثر الذي انتهجه منذ ديوانه الأول، ولكن برؤية خاصة، تنهل من معين الإنسان الحائر والتائه وسط عظمة كون لا محدود، بدايته الحياة والنور وقد لا تكون نهايته الموت أو العدم، وتحاول أن ترسم مساراً مغايراً عله يخترق الماورائيات ويجيب عن أسئلة وجودية.
في شعرك يبدو أنك تعيش هاجس العمر واللحظة، فهل تخشى الغياب وتحاول إثبات حضورك في اللحظة الحاضرة؟

كل كائن إنساني محكوم بهاجس الغياب بمعناه المادي والوجودي. فكرة الموت التي صدمت الإنسان منذ وعيه المبكر هي التي دفعته ربما إلى خلق بدائل تعويضية تمثلت في مجمل التراث الميثولوجي والحضاري. ولكن من الناحية الشعرية، نعم، أستطيع أن أقول إن في قصائدي تبرز موضوعة الحياة والموت/ الحضور والغياب، بما تعنيه من علاقة جدلية، تحيلنا إلى مفهوم أكثر جدلية وديناميكية، وهو أن كل حقيقة تحمل في داخلها نقيضها، أي بمعنى أوضح، أن كل غياب ينطوي على حضور مغاير، كما وأن كل حضور يحمل في ملامحه غياباً ما أو غيابات متعددة إذا جاز التعبير، بهذا المعنى تخرج اللحظة الراهنة من محدوديتها ومن كونها كل ما يستطيع امتلاكه الإنسان/ الشاعر، لتصير فضاء من الاحتمالات اللانهائية.

القلق والحنين، وجهان لعملة واحدة اسمها الحب، فهل الحب عندك هو معاناة فقط وأين الفرح فيه؟

في الحقيقة، لا يغريني الفرح كثيراً كموضوع قابل للتوظيف في القصيدة، وذلك لأسباب عدة، أهمها أنني أنظر إليه كقشرة سطحية تظهر بين حين وآخر لتغلف تلك الأخاديد العميقة في الروح الإنساني. أنا لا أريد أن أوحي بميلي المطلق إلى التشاؤم، ولكني لا أنكر أبداً أن في ما أكتبه مسحة تشاؤمية لا تخفى على أحد، ربما لأنني مؤمن بفكرة أن الحزن دائماً ينكش عميقاً وبعيداً عن سطح الحياة، إنه كالخلد الذي يعرف الطريق من وطأة التراب، ولهذا يحضرني الحزن دائماً في لحظة الكتابة، بما هي لحظة توثيقية، خاصة وجذرية.

الخوف من الموت، الوحدة، الانكسار وغيرها تتمحور حولها قصائد «بلا قصد تشتهيك العصافير». إلى أي مدى أثرت الظروف التي أحاطت بك في بدايات الألفية الثالثة في قصائد الديوان؟

ولدت في الحرب، نشأت في الحرب، نجوت من الحرب. بهذه العبارات الثلاث، يمكنني أن ألخص هذا الخوف كله الذي يشكل محوراً لقصائد «بلا قصد تشتهيك العصافير». عندما انتهت الحرب الأهلية في لبنان تسعينيات القرن الماضي وقفنا جميعاً، أعني جميع من بقوا، وقفنا نفحص أرواحنا، أجسادنا، أحلامنا التي أعطبتها قسوة الموت، وبالرغم من كل ما فقدناه شعرنا بإننا نجونا، نجونا ولم ننسَ، تناسينا ولم ننسَ. واليوم، عندما تلفنا الحرب من الجهات كافة، ترانا كالمجانين نعدو بلا وجهة، ندور حول أنفسنا كما في لعبة الظل، نهش الموت، مثلما يهش طفل، دميته المعلقة في سقف السرير.

أنت مسرحي، ويبدو ذلك جلياً في قصائدك، كل مقطع فيها يشكل مشهداً قائماً بذاته، فهل تداخل الفنون في شخصيتك ساهم في إغناء تجربتك الشعرية؟

لا شك في أن عملي في المسرح ساهم إلى حد كبير في إغناء تجربتي الشعرية لناحية البناء والأسلوب، خصوصاً عندما نتحدث عن المشهدية. ثمة قصائد كاملة بنيت على أساس مشهدي استفاد من آليات التعبير المسرحية، يضاف إلى ذلك أنني أمتلك وزوجتي الفنانة التشكيلية ميرنا عيط محترفاً فنياً ساهم بدوره في رفد المخزون المعرفي والثقافي لدي بطاقات جديدة وظفتها في العمل الشعري، فالعمل المسرحي والمحاولات التشكيلية التي أقوم بها داخل المحترف، أضفيا لوناً بارزاً على ملامح قصيدتي.

مرآة وومضة

إلى أي مدى تشكل قصائدك مرآة لمعاناة الآخرين، لا سيما أنك تركز في بعضها على الجوع والفقر؟

عندما أكتب عن الجوع والفقر، لا أكتب من مكان خارجي يجعلني في حالة انفصامية عن جوهر القصيدة، ذلك أن التصاقي بتلك المعاناة، سيجعل من المستحيل علي أن أكون مجرد شاهد أو متباك على مأساة ما. أنا لا ألتقط من بعيد صورة مؤطرة أحاول استخدامها كمادة تزويقية، وليس صوتي مجرد ترف شعري. كل ما أحاول أن أفعله هنا هو التقاط صورة شخصية تحيلني إلى جزء من كل، فعندما أقول «الفقراء ما أتعسهم» سوف أعني بالظبط «ما أتعسني».

تعتمد على الومضة في الفكرة، فهل الشعر بالنسبة إليك ومضات لا تحتاج تفسيراً؟

ثمة إشكالية حول ماهية الشعر، ما زالت قائمة وموجودة لغاية الآن وأظنها ستبقى إلى ما لانهاية، فلنسمها رؤى مختلفة، أو وجهات نظر لا فرق، ما يهمني هنا القول إن الشعر كما أراه، هو تلك اللغة الخاطفة، المغايرة للعادي والمنطقي، والتي تعيد تركيب الواقع على أساس حلمي، إنه ليس فقط كلاماً جميلاً، رقيقاً، يثير الأشجان، واضحاً، ربما هو هذا كله أو بعضه، إضافة إلى أشياء أخرى أيضاً قد تكون نقيضاً لما سبق. هو ليس آلية جامدة كما نتصور أحياناً بقدر ما هو آلية تلقائية تسعى دائماً وأبداً إلى التفلت من القولبة. إنه الومضة الغامضة التي تكسر الرتابة، الحيرة التي توحي بالرؤى، إنه بهذا المعنى الهرطقة التي تشعشع الحقيقة.

روحانية وموت

تسيطر على قصائدك روحانية، فهل تقصد من وراء ذلك تحريرها من الوقوع في الآنية، وحمايتها من الزوال والنسيان؟

أظنّ أن كل شاعر أو كاتب، عموماً، يعتقد ضمنياً بأنه صانع بصمته الخاصة على الحياة لا محالة، لأجل هذا يسعى، ولأجل هذا تصير الكتابة بالنسبة إليه نوعاً من الرؤيا، رؤيا محملة بتأويلات مفتوحة، ما يعطيها إمكانية البقاء والحماية من الزوال السريع، حيث أن كل قراءة لهذه الرؤيا سواء أتت من ناقد أو من قارئ عادي، تكوّن بحسب مستواها، نصاً مضافاً، يبعث فيها روحاً جديدة.

للموت فلسفة خاصة في قصائدك، فهل هو عدو تحاربه بالكلمة الشعرية أم خصم تحاول التأقلم معه؟

الموت بصفته كائناً غامضاً، يجعل من المستحيل على أي كان مواجهته، وكما قيل «الإنسان عدو ما يجهل»، بهذا المعنى يكون الموت عدواً، ولكن في المقابل أراني في بعض الأحيان أسعى إلى التآخي معه أو مصادقته، لعلّي أجد في ترداد اسمه نوعاً من التعزية السحرية، نوعاً من التعوّد على حضوره ونوعاً من المؤاساة التعويضية، بالحيلة الشعرية، بملء تلك المسافة الفاصلة بيننا، بقضم الحياة ذاتها أراني أقترب، ورويداً رويداً يصير الذي كان غامضاً وعدواً، ناصع الوضوح، إلى أن نسير معاً يداً بيد كصديقين.

ما الجديد الذي تحضره راهناً؟

أعمل على مجموعة شعرية جديدة أتمنى أن تنجز قريباً، فأنا مستمر في المحاولة كما في المجموعتين السابقتين، لبلورة مشروع وتجربة شعرية تحقق إضافة ولو بسيطة على كل ما قيل. جميل جداً أن نكتب الشعر ولكن الأجمل من ذلك هو أن نعي ماهية وجوهر العمل الشعري متمثلاً في وحدة الاستمرار والقطيعة بحسب تعبير حسين مروة، الاستمرار في البناء على الموروث الشعري والقطيعة معه في آن، الكتابة للمستقبل باستنفاد إمكانات الحاضر كافة.

قصيدة النثر

اختار الشاعر علي حمام قصيدة النثر وسيلة تعبير له. يقول في هذا السياق: «بالنسبة إلي، ما يهمني فعلاً هو الشعر بذاته، المادة الشعرية التي أكتبها أو أقرأها، بمعزل عن شكل القصيدة، سواء كانت عمودية أو تفعيلة أو نثراً، إنها قوالب تتأتى أهميتها فقط من كونها أداة تخدم الشعر، وربما لا تخدمه في أحيان أخرى، إذا لم يحسن اختيارها».

يتابع: «في البداية كتبت قصيدة التفعيلة وكنت ممن يطربون لذلك الجرس الموسيقي الذي يحدثه الوزن والقافية، ولكن مع نضوج التجربة، بات يشغلني أكثر البناء الشعري (التداعي الحر والتكثيف) بعيداً عن الشكلانية، ما أدى بالنتيجة إلى جنوحي شيئاً فشيئاً نحو قصيدة النثر. وبغض النظر عن الجدل الذي كان مثاراً في السابق حول مشروعية وحضور قصيدة النثر في المشهد الشعري، والذي انتهى اليوم، فإن هذه القصيدة أثبتت أنها تحمل خصائص تتيح للشاعر إمكانية التعبير الحر من دون الالتفات نحو جوانب قد تحد من التلقائية التي يتطلبها العمل الشعري، وأقصد هنا الوزن والقافية. هذا رأي شخصي بالطبع، قد يوافقني فيه البعض وقد يختلف معي البعض الآخر، ففي تعبير لطيف لأبي حيان التوحيدي في ما يخص الشعر يقول: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم» وهذا هو بالضبط جوهر قصيدة النثر، التي تصنع وزنها وإيقاعها الخاص».

كل ما أحاول أن أفعله التقاط صورة شخصية تحيلني إلى جزء من كل

الشعر كما أراه هو تلك اللغة الخاطفة والمغايرة للعادي والمنطقي
back to top