ضباب على نافذة القلب!
"لا تفرّق قلبك في أماكن عدّة، فإن ذلك سيصعّب عليك جمع نبضك"، هذه حكمة من الحكم البليغة في الحب، بينما تعارضها حكمة العطاء قائلة:" إن كنت ماء فلا تسكب غزيرك على زهرة واحدة، وفكر في الحقل"، وهي حكمة لا تقل صواباً عن سابقتها، فالماء الغزير سيقتل الزهرة، في حين يموت الحقل ظمأً! لو فعلها الماء لأثِم، تلك ستكون النهاية المأساوية لفصيلة الزهور وآخر فصل لها في كتاب "العسل"! كيف إذن نوفق بين حكمة الحب وحكمة العطاء؟! العطاء ذريعتنا الكبرى في الحب، وحجتنا، التي يصعب دفعها في غالب قصص حبنا ؟! سواء كانت مرافعتنا مع قصة الحب أم ضدها، حجتنا واحدة إنها العطاء، أما أن يكون العطاء سبباً في دفاعنا عن قصة الحب ما، أو أن يكون عدم وجوده سبباً كافياً للحكم بإنهائها بحكم غير قابل للاستئناف، والسؤال هو طالما أن الحب والعطاء متلازمان لهذا الحدّ، كيف إذن نوفّق بين حكمتيهما المتضادتين؟! حكمة تصغّر الفضاء وأخرى توسّع الأفق، واحدة دفء عش وأخرى توق أجنحة، كيف يمكن التوفيق بين متضادين ليس من التآلف بينهما بدّ؟! وبالمناسبة، فإن السؤال الأول في اختبار الحب لنا هو: هل تملك القدرة على التآلف مع ضدك؟! إجابتنا على هذا السؤال هي التي تحدّد ما إذا كان من يختبرنا سيأخذنا على محمل الحب أم على "مِحْمَل" الغرق، وباعتقادي أن وسيلتنا لمعرفة الإجابة الصحيحة، هي أن ننجح في حل هذا التمرين، كيف يمكننا الخروج من أزمة الجمع بين حكمتين متضادين (حكمة الحب وحكمة العطاء) سالمين، متصالحين مع أنفسنا، حريصين ألا نشوه الحياة ! لابد لنا حتى نزيل اللبس عن قلوبنا أن ندرك أولاً أن الحب ليس هو العطاء برغم هذا الاشتباك بينهما حد الانصهار، فالحب وحدانية، وامتلاء حد الإفاضة بمحبوب، واقتصار حجم نافذة قلبه على قياس وجه من يحب، بينما العطاء مسح كامل للوجوه والهويات، ظلاله لا يستثني من استطاع إليه وصولاً! لذا لا بد أن نفهم أن تلازمهما لا يعني أنهما توأمان، فالعطاء ابن المحبة، والمحبة ليست الحب، المحبة معنية بالغابة خارجنا، بينما الحب مهتم بالحديقة داخلنا.
المحبة معنية بأمان دروبنا وسط تلك الغابة والعودة لنا سالمين، بينما الحب همه الأكبر حماية حديقة قلوبنا من الأعشاب الضارة، ونقص الضوء، وشح الماء، رسالة المحبة أن توزع الهبات والعطايا دون أن تدقق في الملامح أو حتى التوقف لأخذ الأسماء وجمع الدعوات الصالحة، بينما رسالة الحب هي بناء أرجوحة للحبيب في حديقة القلب بكثير من الدعوات أن تزهر وردة رضا كلما ارتفع عالياً في الفضاء، وعلى الرغم من الفرق الشاسع هذا، فإنه لا يمكن الفصل بينهما، فالمحبة لن تؤمن لقلوبنا دروباً آمنة في الغابة خارجنا، ما لم تكن قلوبنا محملة بالحمام، ولن تمنحها الظل إذا ما حطبنا شجرة .. داخلنا!