قدِموا في الصباح الباكر من أنحاء البلد كافة، وأمضوا ساعات وهم ينتظرون في البرد، إلا أن صبرهم بدأ ينفد. راح المتظاهرون، ومن بينهم عدد كبير من الصحافيين، يتقدّمون نحو حواجز أُقيمت أمام قصر عدل كاغلايان في اسطنبول، وهم ينادون «نريد العدالة! الصحافة ليست جريمة!».

قبل أسبوعين، بدأت إحدى محاكمات الإرهاب الكثيرة ضدّ الصحافي أحمد شيك. تعهدت حكومة إردوغان بالسماح للمراقبين بحضور الجلسات، فيما مُنع الواقفون في الخارج من الدخول بحجة أن غرفة المحكمة صغيرة. يقول إيرول أونديروغلو، ممثل «مراسلين بلا حدود» وصديق شيك: «تريد الحكومة إبقاء الناس خارجاً لأنها تخجل بهذه المحاكمة».

Ad

أحمد شيك (46 سنة) أحد أفضل الصحافيين الاستقصائيين في تركيا، حاز جائزة اليونسكو لحرية الصحافة عن عمله. في عام 2011، كشف عن ممارسات فتح الله كولن، إذ وصف في كتابه The Imam's Army (جيش الإمام) تغلغل أتباع الداعية الإسلامي، بمساعدة إردوغان الذي كان آنذاك رئيس وزراء، في مؤسسات الدولة محققين مكاسب كبيرة وملاحقين خصومهم. لكن الشرطة صادرت مسودة الكتاب، وأُلقي شيك في السجن طوال 12 شهراً كإرهابي مزعوم. وبعد مرور ست سنوات، عاد شيك إلى السجن. لكن تهمته اليوم الترويج لكولن. وهكذا تحوّلت قضيته إلى مثال بارز لتقلّب الحكومة التركية في تعاطيها راهناً مع الصحافيين.

صار هذا القمع يطاول أيضاً النقاد القادمين من الخارج. المراسل التركي للصحيفة اليومية الألمانية Die Welt، دنيز يوجل (43 سنة)، في عهدة الشرطة في اسطنبول منذ 14 فبراير الفائت. اتهمته السلطات بالانتماء إلى منظمة إرهابية، والترويج لدعاية إرهابية، وسوء استعمال البيانات. هو يقبع اليوم في السجن منتظراً محاكمته، إلا أن التهمة الأولى أُسقطت. كانت جريمته كتابته عن رسائل إلكترونية سرقتها مجموعة القرصنة RedHack من بريد وزير الطاقة بيرات البيرق، زوج ابنة إردوغان. هذا كل ما في الأمر.

كان أحمد شيك ممدداً في سريره عندما اقتحمت السلطات شقته في اسطنبول في الساعة 7:30 صباحاً في 29 ديسمبر 2016 واقتادته إلى مركز الشرطة. وطوال 24 ساعة، مُنع من الاتصال بزوجته أو محاميه، فيما راح المحققون يستجوبونه بشأن تغريدات كتبها منتقداً فيها الحكومة ومقالات نشرها يعود بعضها إلى سنتين مضتا. في تصريح لاحق، أفاد: «ركّز التحقيق على نشاطاتي المهنية، أو بكلمات أخرى: الصحافة».

معركة لأجل الديمقراطية

بعد شهر ونصف شهر من اعتقال زوجها، كانت يونكا فيرديوغلو تسير في جادة الاستقلال، أحد شوارع التسوق في وسط اسطنبول، وهي ترتدي معطفاً، وسروال جينز، وحذاء رياضياً. تعمل مديرة مشاريع في فرع Heinrich Boll Stiftung في اسطنبول، وهي منظمة سياسية تابعة لحزب «الخضر» في ألمانيا. بدا صوتها خشناً وعيناها متعبتين، فالحرب التي تخوضها دفاعاً عن زوجها هي أيضاً حرب لأجل الديمقراطية في تركيا.

التقى شيك فيرديوغلو في اسطنبول في تسعينيات القرن الماضي. كان يعمل آنذاك في الصحيفة اليومية الليبرالية Yeni Yüzyil ، في حين شاركت هي في العمل في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان. اعتبرا نفسيهما من أنصار اليسارية العلمانية، وما كانا راضيين عن الوضع السياسي آنذاك. صحيح أن تركيا كانت خاضعة لحكم ائتلاف يميني- وسطي علماني، إلا أن النفوذ الحقيقي كان بين يدي الجيش والأجهزة الأمنية. وكانت السجون مكتظة بالناشطين في مجال حقوق الإنسان، والصحافيين، والأكاديميين.

في 8 يناير 1996، تعرّض صديق شيك، الصحافي ميتين غوكتيبي، للتعذيب حتى الموت على يد عناصر أمنيين عقب إحدى التظاهرات. ادعت الشرطة أنه سقط أرضاً، إلا أن شيك وزملاءه لم يصدقوا هذه الرواية وبدأوا بالبحث عن الحقيقة. وفي المحاكمة التي تلت، أقرّ رجال الشرطة أنهم ضربوا غوكتيبي بالعصي وركلوه.

يؤكد إليف إيلغاز، الذي عمل مع شيك على حملة غوكتيبي في التسعينيات، أن الثامن من يناير شكّل نداء استيقاظ للشعب. بعيد ذلك، انضمّ الاثنان إلى صحافيين آخرين ليشكّلوا نوعاً من اتحاد مستقل للصحافيين دافع آنذاك عن الحقوق الديمقراطية. لكن بعض تلك الحقوق عاد بالفائدة على السياسيين المتشددين دينياً، الذين استغلوهم لانتزاع السلطة من الجنرالات. أحد أبرز المستفدين رجل أوقف لاحقاً شيك في مناسبتين مختلفتين: إردوغان.

مع عدد من الأصدقاء من الكتّاب، والصحافيين، والفنانين، تحاول يونكا فيرديوغلو تحرير شيك من السجن. أعدوا شريطاً يُظهر مقتطفات من مسيرته المهنية. يذكر كان أتالاي، أحد مؤسسي تظاهرات منتزه جيزي: «لم يسمح لأحد بأن يفسده، سواء بواسطة سلطة أو المال». ذاع صيت شيك في أواخر التسعينيات كصحافي لا يخاف المحظورات في المجتمع التركي بعد تغطيته الظلم الذي يتعرّض له الأكراد والتعذيب في السجون التركية.

إرهابيان وخائنان

لكن كتابه عن «حركة كولن» عام 2011 كان سبب شهرته الكبرى. فيه، تتبع شيك كيف نجح فتح الله كولن، الذي يعيش في المنفى في الولايات المتحدة منذ عام 1999، في تأسيس المجموعة الإسلامية الأكثر نفوذاً في تركيا. كتب أن كولن زرع أتباعه في الشركات، ووسائل الإعلام، والمناصب الإدارية الأكثر أهمية، ومنها عملوا على الترويج لمصالح المجموعة على حساب الشعب. أضاف أن إردوغان عقد صفقة مع هذا الداعية عقب انتصاره الانتخابي عام 2002، متعهداً بالترويج لحركة كولن مقابل دعمها إياه في صراعه مع المؤسسة العلمانية.

نجح إردوغان وكولن معاً في كسر قبضة الجيش على السلطة. لكن إردوغان أخفق بعد ذلك في نشر الديمقراطية في مؤسسات الدولة. كشف شيك أن أتباع كولن في الشرطة والقضاء استخدموا أدلة زائفة بغية ملاحقة المئات من أنصار المعارضة، مدعين أنهم من أعضاء المنظمة الإرهابية المتطرفة إرغينيكون.

في عام 2011، اعتُقل الصحافي واقتيد إلى سجن خاضع لحراسة مشددة في سيليفري في ضواحي اسطنبول. زعم المدعي العام أن شيك نفسه من أتباع إرغينيكون. يخبر نديم سينر، صحافي تشاطر الزنزانة مع شيك طوال سنة، أن الأخير حافظ على معنوياته عالية رغم أوضاع صعبة كثيرة واجهها في السجن، من عزلة ومضايقات الحراس. يضيف: «كان يقول إن الحقيقة لا يُمكن أن تُخفى إلى الأبد»، مع أن وسائل إعلام تركية كثيرة نددت بسينر وشيك بصفتهما «إرهابيين» و«خائنين».

لم تتبدّل هذه الرواية إلا بعد حدوث قطيعة مُرة بين إردوغان وكولن عام 2013. وهكذا علم الشعب فجأة بأساليب غير شرعية اتبعتها «حركة كولن»، وعمد الرئيس منذ ذلك الحين إلى تصوير نفسه كضحية لها، مصراً على أن الداعية كان القوة المحركة وراء انتفاضة الجيش التي أخفقت في 15 يوليو عام 2016.

جار معظم وسائل الإعلام التركية إردوغان في تبدله هذا. وهكذا انتقل صحافيون كثيرون كانوا قبل سنوات قليلة يكنون الاحترام لكولن كداعية إلى التنديد به كقائد إرهابي. ولكن بالنسبة إلى شيك، بدت هذه المسألة ساذجة. وبعد تحريره من السجن، كتب الصحافي: «يجب أن يمثل فتح الله كولن وإردوغان معاً أمام المحكمة لإنشائهما هذه المنظمة وقيادتها».

«تحبس أنفاسي»

يبدو مقرّ عمل شيك في الصحيفة اليومية «جمهوريت» اليوم أشبه بحصن مع تولّي رجال الأمن الحراسة عند المدخل. كان تورا بيكين، أحد محامي الصحيفة، يجلس في مكتب جوه خانق في الطابق العلوي. راح يهزّ رأسه قائلاً: «أتابع عدداً من المحاكمات الظالمة، إلا أن قضية شيك تحبس أنفاسي».

يُستعمل كتاب شيك راهناً كدليل في المحاكمات ضد «حركة كولن». رغم ذلك، اتهمته الحكومة بأنه داعم لها. وما زالت محاكمة شيك في التهم التي وُجهت إليه عام 2011 على أنه أحد أعضاء إرغينيكون مستمرةً. ومع أن رجال الشرطة الذين أوقفوه يومذاك دخلوا السجن لأنهم من أنصار كولن، يُرغَم الصحافي على المثول أمام المحكمة في قصر عدل كاغلايان. يذكر بيكين: «في قضية شيك، لا تحاول الحكومة حتى الحفاظ على مظاهر الدعوى الصحيحة».

منذ يوليو عام 2016، أُقفلت 170 وسيلة إعلامية واعتُقل 162 صحافياً. وعانت «جمهوريت»، إحدى الصحف المستقلة القليلة المتبقية في البلد، عدداً كبيراً من عمليات الانتقام. يقبع رئيس تحريرها و11 من صحافييها وراء القضبان، بعضهم منذ أكثر من مئة يوم. نتيجة لذلك، يُضطر محامي الصحيفة بيكين راهناً إلى زيارة الجناح الخاضع للحراسة المشددة في سيليفري كل يومين للاجتماع بعملائه. يوضح: «المعادلة بسيطة: إما تدعم إردوغان أو تُعتبر إرهابياً».

يوم الخميس في فبراير الفائت، قصدت زوجة شيك سجن سيليفري لزيارة مدتها ساعة تمضيها مع زوجها كل أسبوع. تؤكد أن زياراتها تبدو دوماً كذكرى أليمة أو ككابوس من الماضي. كان الناس محتشدين عند مدخل السجن، بما أن منشآته وُسّعت كثيراً من المبنيين اللذين كان يضمهما عام 2011. تواجه الحكومة صعوبة في العثور على مساحة كافية لسجنائها. حتى أن وزارة العدل حررت في الصيف الماضي 38 ألف سجين مدان كي تخصص مكاناً لداعمي الانقلاب المزعومين.

شيك محتجز في الجناح 9 الخاضع لحراسة مشددة. لا يُسمح له بمطالعة أي كتاب من خارج مكتبة السجن أو برؤية أي سجين آخر أو تلقي زيارات إلا من أفراد عائلته المباشرين ومحاميه. وعندما يتحادث هو وفيرديوغلو خلال الزيارات الأسبوعية يفصل بينهما لوح زجاجي، وهي تستغل الزيارات لتنقل إليه أخبار ابنتهما، وأقاربهما، وأصدقائهما.

لا يعرف شيك ولا زوجته متى سيُحرر من السجن. في أبريل المقبل، ستصوت تركيا على تبني النظام التنفيذي الرئاسي الذي سيرسخ السلطة في يد إردوغان. ولكن رغم عملية التصويت الوشيكة، تكرّر زوجة شيك الكلمات التي ذكرها زوجها أمام شاشة الكاميرا عام 2012: «من الظلم والاستبداد، ستنشأ حياة جديدة يخشاها مَن في السلطة، إلا أننا نحلم بها وسنواصل النضال لأجلها».