رغم انبهاري بتجربة فيلم «علي معزة وإبراهيم»، عقب مشاهدة العرض العالمي الأول للفيلم في الدورة الثالثة عشرة (7-14 ديسمبر 2016) لمهرجان دبي السينمائي الدولي، فإنني لم أشأ الكتابة عنه، وآثرت التأجيل، إلى حين طرحه في الصالات التجارية، رغبة مني في الاستقراء الدقيق للتجربة، التي يمكن القول، من دون مبالغة، إنها تمثّل فتحاً جديداً في السينما المصرية، وتحتاج إلى ذائقة فنية ومزاجية مختلفة عن تلك التي كرّستها السينما المصرية السائدة.

كتب إبراهيم البطوط قصة {علي معزة وإبراهيم}، لكن حالت ظروفه الخاصة دون إخراجها للشاشة. من ثم، ذهب الفيلم إلى المخرج شريف البنداري، في تجربته الأولى في إخراج الأفلام الروائية الطويلة، بعد مسيرة متميزة في إخراج الأفلام الروائية القصيرة، أبرزها: {صباح الفل} (2006)، {ساعة عصاري} (2008)، والتسجيلي الطويل {في الطريق لـ.. وسط البلد} (2011)، ومشاركة في الفيلم الطويل {18 يوم} بفيلم قصير عنوانه {حظر تجول}. وتوج هذه المسيرة بالفيلم القصير {حار جاف صيفاً}، الذي حصد جوائز عدة. ذلك كله أهله لخوض تجربة الفيلم الروائي الطويل {علي معزة وإبراهيم}، الذي كتب له السيناريو أحمد عامر، وجاء عميق المغزى، وخفيف الظل، لا يخلو من تمرّد جميل، ويمزج بين البساطة والرصانة، فضلاً عن مراوحته السلسة بين {الواقعية} و{التجريب}، وتوغّله في منطقة تبدو غريبة لكنها طريفة ومُحببة!

Ad

في حي الدرب الأحمر الشعبي يعيش {علي} (علي صبحي) أزمة عنيفة يُصبح فيها مثار تطاول الجميع وسخريتهم، خصوصاً أطفال الحي، بسبب تعلقه بالمعزة التي أطلق عليها اسم {ندى}، ويتعامل معها بوصفها {أنثى} حقيقية رافضاً النظر إليها بوصفها {حيواناً}، فيما تكمن أزمة {إبراهيم} (أحمد مجدي) في أصوات غريبة تتناهى إلى مسامعه، ويجهل مصدرها، وتؤثر في مصدر رزقه، إذ يتهمه صاحب {استوديو عبودة للصوتيات والمرئيات} بأنه معتوه. وفي حضرة الدجال، الذي يُطلق عليه {المعالج الروحاني}، ومن دون سابق معرفة، يجمع الشابين مصير واحد، بعدما يُطالبهما الدجال بإلقاء ثلاث قطع من {الزلط} في المسطحات المائية الثلاثة، وهو ما يعني الإبحار في رحلة داخل مصر، تبدأ بالبحر المتوسط في الإسكندرية وتنتهي بنهر النيل في القاهرة، مروراً بالبحر الأحمر في سيناء، بكل ما اعترى الرحلة من مواقف طريفة، ومُبكية، ومكاشفة للأفكار، وتعرية للنفس البشرية.

هي رحلة تنوير، وإعادة اكتشاف للذات، يتصالح فيها {إبراهيم} مع نفسه، وماضيه، ويهزم مخاوفه، وهواجسه، ونضع أيدينا بعدها على حقيقة أزمة {علي معزة}، الذي لم يكن يوماً مخبولاً، بل هو إنسان رقيق أحب بتفان، وأخلص لحبيبته إلى درجة الجنون، ولحظة أن أدرك الجميع من حوله حجم المأساة التي يعيشها، وأيقنوا أنهم أساؤوا إليه، عادوا واعتذروا وكفروا عن ذنبهم، وتحولت {ندى}، لديهم، إلى أسطورة، ورمز للحب الخالد!

لا يكمن سحر فيلم {علي معزة وإبراهيم} في معالجته الرقيقة والراقية للموضوع أو اختلافه عن السائد، وامتلاكه مقومات المتعة، خصوصاً في التفاهم الكامل بين {علي} و{ندى}، بل في كونه مصنوعاً بحرفية عالية، سواء على صعيد شريط الصوت أو الديكور (أحمد فايز)، أو التصوير (عمرو فاروق) أو الموسيقى (أحمد الصاوي) أو الملابس (ريم العدل) فضلاً عن المونتاج (عماد ماهر)، الذي كان له دور كبير في تماسك الأحداث، وسلاسة المواقف، وضبط الإيقاع. كذلك حالف التوفيق المخرج في اختيار مواقع التصوير، التي تناغمت مع الموضوع والشخصيات، وهو التناغم نفسه الذي خيم على العلاقة الإنسانية الرائعة بين علي صبحي وأحمد مجدي، وانعكس على بقية الشخصيات، سواء {نوسة} أم علي معزة (سلوى محمد علي) أو فتاة الهوى {نور/ صباح} (ناهد السباعي) أو الصديق {كاماتا} (أسامة أبو العطا)، فالعواطف تجد صداها جنباً إلى جنب مع مشاعر الحب والفقد، والبهجة والمأساة. حتى مشاهد سخرية الأطفال من {علي معزة} اتسمت بالطرافة، ولم تكن لها علاقة بالغلظة والسماجة، وهي السمة التي ميزت مشهد المواجهة بين {إبراهيم} والبلطجية، الذين خطفوا {ندى} طمعاً في ابتزاز {علي معزة}، ودمرهم نفسياً وعضوياً عبر توظيف مهنة الصوت التي يُجيدها، ومضاعفة {التراكات} بحيث زلزلهم وخلخل أعصابهم!

بالطبع لم يخل الأمر من غياب المنطق عن بعض المواقف والعلاقات، كانبهار {كاماتا} (أسامة أبو العطا) بفتاة الليل {نور} (ناهد السباعي)، وإصراره على الزواج منها. لكنها قليلة، ولم تؤثر سلباً في التجربة المثيرة، التي تحتاج إلى أكثر من مشاهدة لقراءتها بالشكل الذي يليق بها، وبتركيبتها الفلسفية التي تتأرجح بين الحياة والموت!