كنّا ونحن صغار نعتبر أن كل ما يحيط بِنَا هو جزء من ملكيتنا، فالشارع شارعنا والحارة حارتنا، وكذلك حائط المنزل الذي نعيش فيه هو حائطنا، أو كما كنا نسميها "حيطة بيتنا"، بحثت في الموضوع، وأعجبني أحد التفسيرات التي قرأتها، ملخصه هو أن جزءاً من ثقافة الشارع في مصر، مدنها وقراها في القرن الماضي، هو إحساس كل فرد بأن حائط بيته يملك أن يفعل عليه ما يريد، وهكذا كان كل طفل أو صبي يستخدم هذا الحائط في التعبير عن مكنوناته ومواقفه، فيعلن أنه أشجع ولد في الحارة، أو أقوى شاب في الحي، أو أن يهاجم منافساً آخر له يمتلك الحائط المقابل، أو أن يعلن فرحته الكبرى بفوز الأهلي أو نكايته في هزيمة الزمالك، وكان المنطق الذي يسود ويحكم، إذا ما توجه أحد باللوم أو التساؤل إلى من يكتب على الحائط، أنه حر فيما يفعل، قائلاً "دي حيطة بيتنا".هذا الشكل من إدارة العلاقات والسلوك العام، يبدو وكأنه حاضر بقوة هذه الأيام، فقد تقسم الوطن إلى حوائط كثيرة، امتلك كل فرد جزءاً من هذا الحائط، وأصبحت "حيطة بيتهم" يمارس فيها ما يشاء من أداء وتعبير، فيبدو الأمر شاذاً غريباً متناقضاً، وأصبحت المجتمعات مجتمعات كثيرة، وصورة كل منها متناقضة ومغايرة للآخر.
تقرأ بعض الصحف أو تشاهد بعض الفضائيات، فتعتقد أن المجتمع الذي نعيشه هو مجتمع مشرف على الانهيار، مجتمع ضاعت فيه القيم وسقطت فيه الأخلاق، وبات الوضع فيه وكأنه يحكم بالحديد والنار، مجتمع غابت منه النخوة، والحرية، والكرامة. ونلقي أبصارنا حولنا لنشاهد ملامح هذا الواقع الأسود، فنكتشف أن الصورة ليست كما يحاول هؤلاء تصويرها، قد تكون أسوأ وقد تكون أفضل، وفي المقابل، نجد صحفاً ووسائل إعلام أخرى تقدم المجتمع وكأنه مجتمع جدير بأن يحسد المواطن الإنكليزي نظيره في هذا المجتمع، على تلك الحرية اللا محدودة التي ينعم بها، ويحسد السويسري نظيره هنا على حجم الهناء والسعادة والرغد الذي يعيش في كنفه، مجتمع ملائكي لا يفسده إلا قلة من الشياطين، الذين تخصصوا في إفساد متعة الحياة وبركتها، وأيضاً ننظر حولنا فلا نجد أثراً لذلك المجتمع. ما فات هو صورة تبسيطية- قد تكون مخلة لو ظلت في حدودها- لما نحن عليه الآن، حالة الصراخ والتباكي والتطاحن، وادعاء البطولات غير المنظورة إلا لأصحابها، تحول المجتمع إلى خليط متناقض، كل يكتب ما يشاء مدعياً أنه يكتب على "حيطة بيتهم"، وهذه العلامة علامة خطر أن يتحول حائط الوطن الواحد إلى حوائط متنافرة متصارعة. أظن أنه لم تعد الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة وحدها قادرة على أن تلملم شمل هذا الوطن في هذه المرحلة، ينبغي البحث عمن يستطيع القيام بدور الأرضيّة المشتركة، أو الحائط الجامع لأهل البيت، هذه الأرضية المشتركة لا تعني الاتفاق على القضايا، ولكنها تعني التوافق على أهمية الحوار، وحق الاختلاف والتعبير عن هذا الاختلاف بحرية، تعني أيضاً التوافق على مصلحة الوطن والمواطن، وأن تكون الأجندة الرئيسة هي الأجندة الوطنية، ومصلحة هذا المواطن الذي لم يعد يجد ما يثق به. أظن أن الخروج من هذا الوضع هو الاتفاق على حائط واحد، هو حائط الوطن نمتلكه جميعاً ونعبر من خلاله عن اختلافاتنا بحرية، ولكن بتجانس يصل بنا إلى بناء مجتمع يستحقه كل مواطن.
مقالات - اضافات
«حيطة» بيتنا وحائط الوطن
10-03-2017