يعد مشروع قانون البصمة الوراثية، الذي شرعه مجلس الأمة في 1 يوليو 2015 في جلسة تكميلية وأخذ صفة القانون النافذ، من أكثر التشريعات جدلاً وغرابة، والذي يمكن أن يكون حالة لدرس أداة القانون كونها وسيلة لحل مشكلات المجتمع لا تعقيدها، وعلى رأس ذلك تحقيق العدالة الاجتماعية بالقدر الأقصى، وحفظ الحريات الشخصية وتحجيم مقدار التدخل فيها.

وفي ذلك يمكن تأسيس حالة من النقاش حول الانحراف بهذه الأداة لغرض لا ينفع الناس، بل قد يجر المجتمع إلى نتائج ضارة تهدده وتثير الهلع والريبة والحرج بين أفراده وشرائحه، وتخلق نوعاً من الإرباك في علاقات الدولة الخارجية، وهذا ما حدث فعلاً في حالة قانون البصمة الوراثية رقم 78 لسنة 2015.

Ad

هناك أسئلة جديرة بالطرح، ونحن نناقش ظروف صدور قانون البصمة الوراثية، لكنها- الأسئلة- قد تنطبق بالمثل على أي قانون رديء، أو منحرف عن القيمة العليا للقانون، مثل قوانين حرمان المسيء من الحق السياسي، وتخفيض سن الحدث، وقبل ذلك قانون إعدام المسيء الذي رده سمو الأمير.

ومن تلك الأسئلة ما يلي:

1- هل نحن بحاجة إلى التشريع الذي نريد إصداره؟

2- هل تشريع قانون هو الحل الأمثل للمشكلة التي نواجهها؟

3- ما حجم الإيهام الذي وصل إلى الناس بأن قانون ما قد ساهم بشكل فعال في حل مشاكلهم؟

4- إلى أي حد تداخلت العوامل السياسية بتناقضاتها في التشريع الذي يجب أن يكون أقرب للحياد وتحقيق العدالة وبحكم كون القانون مسألة فنية؟

5- ما علاقة القانون الجديد بقوانين أخرى قائمة، وما تأثير صدوره في تنشيط حالة من الاضطراب والإضرار بقوانين أخرى سارية؟

6- هل القانون الجديد سهل الفهم والتنفيذ؟

7- هل يقبل القانون مراجعة تشريعية ومجتمعية بعد مضي فترة من تطبيقه أم لا؟

8- هل حققت السلطتان التنفيذية والتشريعية مبدأي الفعالية وعدم الطغيان في المسألة التشريعية؟

9 - وبعد كل ما سبق، هل القانون الذي نحن بصدد دراسته متفق مع الدستور الذي هو قانون أعلى أم أنه متعارض مع نصوص فيه؟

ظروف التشريع

وقع تفجير انتحاري في مسجد للطائفة الشيعية في الكويت (مسجد الإمام الصادق) في منطقة الصوابر وسط العاصمة بتاريخ 26 يونيو 2015 الموافق 9 رمضان 1436، وذلك أثناء صلاة الجمعة وراح ضحية التفجير 27 مصلياً وجرح حوالي 227، وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن الحادث، الذي نفذه مواطن سعودي دخل البلاد في نفس يوم التفجير، ويدعى فهد سليمان عبدالمحسن القباع، والمكنى بـ "أبو سليمان الموحد".

وشرع مجلس الأمة القانون المذكور بعد مضي 6 أيام فقط من التفجير، ونشر في الجريدة الرسمية (الكويت اليوم) في 2 أغسطس 2015، عدد 1247، متضمناً 13 مادة ومذكرة تفسيرية، ولم يتجاوز الوقت الذي أمضاه المجلس في إقراره الساعة بعد أن اجتمعت لجنة الشؤون الداخلية والدفاع على هامش الجلسة لإنجاز تقريرها- وذلك في مداولتين تم إنهاؤهما بشكل سريع جداً ما حمل معه معاني خطف أداة التشريع وتحريف مضامينها السامية، وسرقة الوقت بشكل مريب.

بعد ذلك أصدرت الحكومة اللائحة التنفيذية للقانون في 2 مايو 2016 ونشرت في الجريدة الرسمية (الكويت اليوم) عدد 1278 بتاريخ 8 مايو 2016، وذلك بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 544 لسنة 2016، أي بعد مضي 11 شهراً من إقرار القانون في 1 يوليو 2015.

ويظهر مما سبق حالة التسرع التي مارستها السلطتان التشريعية والتنفيذية في إقرار القانون، الذي سيتم تطبيقه على كل من يعيش ويقيم ويدخل إلى دولة الكويت عبر أخذ عيناتهم الوراثية جبراً، وتكوين بنك معلومات عنهم ليدار لاحقاً من قبل وزارة الداخلية، وفقاً للقانون المشار إليه، وهو قانون فريد لم يتم تطبيقه بالشكل المطروح في أي دولة في العالم.

محلياً ودولياً

في مثل هذه الأحوال، وأمام مثل هذه التشريعات، كان لابد من أن تتفاعل الدوائر المحلية الأهلية والشعبية، وكذلك الدوائر الخارجية الممثلة بالمنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام المعتبرة مع منطوق القانون، الذي أصبح بصيغته يمس أي شخص في العالم يريد القدوم إلى الكويت، والذين يعيشون داخل حدودها.

في الداخل، تفاعل الرأي العام الشعبي بالحدود التي فرضتها الحالة العامة للحياة السياسية المتردية، والتي باتت أقرب إلى الجفاف السياسي، وانعدام الوزن بسبب سلسلة من الإجراءات الأمنية (سجن مغردين وسحب الجنسية وإغلاق صحف ومنع التجمعات)، والتضييق السياسي الذي طال نشاط جمعيات النفع العام، وكبّل الصحافة، وغير صورتها التقليدية في أذهان الكويتيين، إضافة إلى حالة التململ العام من أداء مجلس الأمة لعام 2013، الذي وصل إلى طريق مسدود حتى تم حله، ونودي بانتخابات مبكرة تمت في يوم السبت الموافق 26 نوفمبر 2016، ليتم تشكيل المجلس السابع عشر في الحياة البرلمانية الكويتية.

هجوم نيابي

وكان ذلك التفاعل قد تمحور حول نشاط ذاتي لبعض كتاب الصحافة، وعدد من المحامين والدعاة الشرعيين، وهجوم من بعض النواب السابقين، أو من يسمون بـ "كتلة الأغلبية"، وعدد قليل من الندوات واللقاءات الصحافية مع أطراف لها وجهة نظر غير مؤيدة للقانون.

وكان أبرز حدث مقاوم للقانون قد ظهر في موقف لسمو الأمير أكده في حديث للصحافة المحلية، ودعا فيه إلى إعادة النظر في القانون وفقا للمبادئ الدستورية والحفاظ على الخصوصية والمصلحه العامة.

وفي الخارج برزت عدة تقارير ناقدة أعدتها صحف أجنبية "واشنطن بوست" ومنظمات دولية (هيومن رايتس ووتش) و "منظمة العفو الدولية"، ولجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ودعت جميعها إلى إعادة النظر في القانون وتغييره، وحذرت من تداعياته على المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وخاصة الحرية الشخصية.

المخالفات الدستورية والقانونية لتشريع البصمة الوراثية:

قد لا يبدو مهما أن نستغرق في شرح الخروقات التي يتسببها قانون مخالف للدستور، ويكتفى فقط ببيان المواد التي تمت مخالفتها، لكن الأمر مع هذا التشريع يتجاوز ذلك بإثارة أسئلة أخرى منها:

1- كيف لبرلمان منوط به عمل الرقابة والتشريع أن يوافق على مشروع قانون دون مراجعته دستوريا، وألا يكون هناك سوى معترض واحد فقط عليه؟

2- ما موقف الهيئة القانونية والدستورية في كل من مجلس الأمة ومجلس الوزراء من قانون بدا فيه العطب الدستوري واضحا لأى مبتدئ في دراسة القانون؟

3- كيف كانت تحل مسائل الإرهاب والجرائم الجنائية مع عدم وجود قانون للبصمة الوراثية؟

في هذا الشأن هناك دراسة قيمة أعدها المحامي حسين العبدالله، ونشرت في جريدة الجريدة بتاريخ 12 ابريل 2016 فصلت جميع المخالفات الدستورية بشكل واضح، ونلخصها بالآتي:

1- هدر مبدأ الحرية الشخصية، مادة 30 من الدستور.

2- هدر مبدأ حرية التنقل وتقييد الحرية، مادة 32 من الدستور.

3- هدر مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون، مادة 32 من الدستور. ويشار هنا إلى مسألة ربط تقديم بعض الخدمات كإصدار جواز السفر بإجراء البصمة الوراثية، عدا عن أن الذي لم يقم بعمل إجرامي مشمول بإجراء البصمة.

4- هدر مبدأ أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، مادة 34 من الدستور.

أما ما يتعلق بالمثالب القانونية - كما جاء في الدراسة - فنلخصه بالآتي:

1- تقرير محكمة التمييز بعدم حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب.

2- اعتبار سحب الجواز إجراء غير دستوري بحكم صادر عن المحكمة الدستورية.

3- حصر إفشاء أسرار البصمة الوراثية في القانون المشار إليه بالموظفين فقط دون التطرق لأطراف أخرى قد تقوم بذات العمل.

تسرع مريب

من المهم جدا الاطلاع على سير العملية التشريعية لهذا القانون أثناء تشريعة في قاعة البرلمان لملاحظة جملة من الممارسات التي تفضح الرغبة الجامحة في إصدار تشريع بسرعة قصوى تثير معها أسئلة حول الهدف منه، بل ويمكن الذهاب إلى مناطق أكثر ريبة بسؤال: من المقصودين به؟!

سنلاحظ السرعة الفائقة في التحول من مادة إلى مادة دون نقاش حقيقي، وكأن توزيعا للأدوار قد بدأ بعد الإعلان عن حلول بند تقرير لجنة الداخلية والدفاع على جدول الأعمال، وإقراره في مداولتين في مدة لم تتجاوز ساعة زمن رغم خطورته التي نبه إليها سمو الأمير لاحقا.

وحدث أن ألقى وزير العدل وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية لبيان ممهور بتوقيع مسؤول قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية في وزارة الأوقاف أثناء الجلسة يفيد بجواز الأخذ بالبصمة الوراثية، لأنها

(قطعية في نظر بعض المختصين وخاصة في حالة الضرورة)، وذلك في محاولة للتقليل من مخاوف بعض النواب من ذوي التوجهات الدينية، وإعطاء القانون الرخصة الشرعية من باب سد الذرائع.

ويمكن الاطلاع علي تفاصيل إقرار القانون وكافة الوثائق الخاصة به وسير النقاش السطحي في مضبطة مجلس الأمة رقم 1336 / ب - الجلسة الثامنة عشرة، المؤرخة يوم الأربعاء 14 رمضان 1436 الموافق 1 يوليو 2015، الساعة الواحدة ظهرا في الصفحات من 315 - 354، تقرير لجنة شؤون الداخلية والدفاع التاسع.

القانون في نهاية المطاف

حدث ما كان متوقعا، رغم تحدي قياديين في وزارة الداخلية بأن القانون سيطبق وأن الجواز الإلكتروني لن يصرف لمن يتخلف عن البصمة الوراثية، فجاء اعتذار رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم في لقاء تلفزيوني لقناة «الراي» عن صدور القانون، ووصف تعميمه على الجميع بـ «الخطأ»، وكان ذلك في يوم 15 أكتوبر 2016، أي في ليلة حل البرلمان الذي تم في 16 أكتوبر.

وأثناء الحملة الانتخابية لمرشحي المجلس، انتقد عدد من نواب مجلس 2013 المنحل قانون البصمة الوراثية بشكل يدعو للاستغراب، رغم أنهم وافقوا عليه في المداولتين، ولم يعارضه سوى نائب واحد كما ذكرنا، وكما هو مثبت بالمضبطة.

واليوم سيكون هذا القانون الغريب والفريد من نوعه من بين أهم أولويات البرلمان، حيث سيتم تلافي الانتقادات التي مسّته محليا ودوليا، وتضييق نطاق تطبيقه ليحقق الغرض منه ضمن الأطر الدستورية. ويستفاد من ذلك أن التسرع في تشريع قوانين في ظل بيئة ضاغطة وأجواء سياسية أو أمنية غير مواتية للخلاص من ضغط الرأي العام، أو لهول المصاب، كما حدث في مسجد الإمام الصادق سيوقع السلطات في أخطاء تضطرها في كثير من الأحيان إلى التراجع كما في النموذج الذي أمامنا.