في نهضة الشعر وانحساره ( 1 - 2)

نشر في 12-03-2017
آخر تحديث 12-03-2017 | 00:00
 فوزي كريم ضعفُ الشعر العربي في العقود الأخيرة، وتألقُ القصة العربية ظاهرة لا تُخطئها العين. قد تثير الصحافةُ غبار هذا الإشكال، ولكن غبارها المعهود عادة ما يُضعف البصيرة. لأن من همم الصحافة الثقافية الإثارة، واستثارة ردود الأفعال. وهي هممٌ على الأغلب سطحيةٌ ولا تقدر على التبسط في الرؤية النقدية، والفارق بين السطحية والبساطة عميق. بهذا المعنى يبدو لي أن إدراك الظاهرة والعلل التي تتوارى وراءها تتطلب النظرة النقدية البريئة والبسيطة.

لا أحد يختلف في أن الشعر العربي في العراق، منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين ظل محوراً مركزياً في مجمل الإبداع اللغوي. ولم تكن ثورته الحداثية المعروفة في منتصف القرن العشرين إلا ثمرة هذه المركزية، وهي ثمرة لم تكن تتطلب فورة حضارية، وهذه واحدة من العناصر الخفية التي تربط الشعر بالبراءة والبدائية. فأنت تقول الشاعر السومري، وشاعر الغاب الإفريقي، والشاعر العامي، والشاعر الكلاسيكي والشاعر الحديث. وحين تذهب إلى التفاصيل تتحدث عن خصائص في الطبيعة الشعرية لكل واحد من هؤلاء؟ ولكنك لا تملك أن تمس كل طبيعة بالارتياب؛ فهم شعراء جميعاً.

الفورةُ الحضارية، التي تمتعت بها مصر تطلبت فورة عقلية، ارتفع فيها النثر القصصي، النقدي والفكري عامة، حتى صارت مناراً للعالم العربي بمجمله. في باطن هذه الفورة تتفاعل عناصر أخرى تعزز من نضجها، لعل أبرزها الطبيعة المتوازنة ذات النفس الطويل للشخصية المصرية، المعزَّزة بدورها بتاريخ طويل من الاستقرار والثبات (نهر معتمد ثابت، عاصمة معتمدة ثابتة، تحت ظل أبي الهول الخالد.. وما من عجلة في الأمر. وهذه الفورة الحضارية، إذا ما افتقدت قاعدة تاريخية للكتابة الشعرية لا بد أن تُسلم قيادها كله للنثر، الذي هو عمود التحضر والتقدم، وتُخلي متنفساً جانبياً للشعر. ولا غرابة في أن تجد هذا المتنفس الجانبي ينعم بأصوات شعرية بالغة التحضر، لا نظير لها في الشعر العراقي، أو العربي. قارن أحمد شوقي بالجواهري، وصلاح عبدالصبور بالسياب.

شعر شوقي يستلهم عناصر الحضارة ويعززها. يتسع فيه أفق "الموضوع" وينحسر دور "الذات". "الموضوع" ينعم بمبادئ عصر التنوير، وتنأى "الذات" عن الاحتدام والصراع. مع الجواهري ينحسر "الموضوع" لمصلحة "الذات" المحتدمة. "أنا" الشاعر هنا لا تتمتع بمركزية فقط، وكلُّ "أنا" شعرية لا بد أن تكون مركزية بالضرورة، ولكنها أيضاً "أنا" منقسمة بين الملاك والشيطان، في دراما داخلية لا تهدأ. كلاهما شاعر كبير، ولكن الأول موهبة تعيش وجوداً حضارياً عقلياً (نثرياً) لا يسمح لها بأن تتكاثر. في حين يعيش الثاني وجوداً بريئاً من هيمنة الحضارة العقلية في لحظة نشوتها، يسمح بصراعه الداخلي أن يتواصل، بل يشجعه، ويدعوه دون هوادة إلى صراع خارجي تتزاحم فيه "الأنوات" الشعرية المتكاثرة حوله دون توقف.

أعتقد، وبالسياق ذاته، أن شعر صلاح عبد الصبور هو الأكثر تحضراً، داخل حركة شعرنا الحديث حتى اليوم. ما من شاعر يضاهيه في هذا، خاصة إذا ما استوعبنا أن صفة "الحداثة" والطليعية، التي شاعت في العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، هي في معظمها ميزة "فنية" خالصة، ولا شأن لها بالتحضر، الذي يتمتع بمسعى عقلي دفين. إنها حداثة بلاغية إن صح التعبير، محاكية، وإيمانية بقناعة. شعر عبد الصبور يتمتع بعقل متسائل، حزين بالضرورة وحانٍ. ليست لديه هموم لغوية، استعارية، إدهاشية، متجاوزة..الخ

بدر شاكر السياب هو الآخر أكبر من أن يُحشر داخل قالب "حداثة" الحداثيين. إنه ليس لغوياً بدوره، استعارياً، محاكياً، إيمانياً بقناعة. ولكنه، مقارنةً بتحضر عبد الصبور، شاعرُ غريزة. إنه شأن الجواهري يحترق بفعل دراما داخلية لا تهدأ. وشأن الجواهري يعيش وجوداً يسمح بصراعه الداخلي، ويدعوه دون هوادة إلى صراع خارجي تتزاحم فيه "الأنوات" الشعرية المتكاثرة حوله دون توقف.

من هنا، يمكن أن نفهم كثرة وتزاحم الشعراء في محيط الجواهري والسياب. وانحسار ذلك في محيط شوقي وصلاح عبدالصبور. ويمكن أن نفهم أيضاً الفرادة الاستثنائية للموهبة الشعرية الكبيرة وسط مواهب لا تتمتع بالقوة ذاتها في مصر، وبين تزاحم الفرادات الاستثنائية للمواهب الشعرية الكبيرة والكثيرة في العراق.

back to top