في 23 فبراير الماضي، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً للمتحدث الرسمي السابق باسم تنظيم "الإخوان" جهاد الحداد، تحت عنوان "أنا عضو في (جماعة الإخوان المسلمين) ولست إرهابياً"، في حين تمت الإشارة إلى أن مصدر المقال (أي المكان الذي كُتب فيه) "طرة".

و"طرة" لمن لا يعرف هو اسم أحد السجون المصرية شديدة الحراسة الشهيرة، والذي يُشاع بين منظمات ووسائل إعلام أميركية أنه السجن الذي يتم فيه انتهاك حقوق المعتقلين من "الإخوان" واستخدام الأساليب القمعية والتعذيب ضدهم. يقضي جهاد الحداد عقوبة في سجن "طرة" بالفعل، بعدما تمت إدانته في محاكمتين شهيرتين، وحُكم بالسجن المؤبد في كل منهما، ورغم ذلك، فإن مسار المحاكمة ما زال ممتداً، وثمة مراحل تقاض أخرى تنتظره، وهي يمكن أن تُثبّت هذين الحكمين أو تنقضهما.

Ad

ومما نُشر منسوباً إلى الحداد في هذا المقال قوله: "أكتبُ هذه الكلمات من داخل ظلام الحبس الانفرادي بأشهر سجون مصر، حيث يتم احتجازي منذ أكثر من ثلاثة أعوام. اضطررتُ لكتابة هذه الكلمات بسبب المناقشات الجارية في الولايات المتحدة الأميركية بخصوص اعتبار (الإخوان المسلمين) جماعةً إرهابية".

ويضيف المقال على لسان الحداد: "نحن لسنا إرهابيين، ففلسفة (الإخوان)، من خلال فهم الإسلام، تؤكد على قيم العدالة الاجتماعية والمساواة وسيادة القانون... ومنذ تأسيس الجماعة ونحن منشغلون سياسيا في مؤسسات بلادنا وكذلك اجتماعيا لتلبية الاحتياجات المباشرة للشعب".

إذا قمنا بتحليل موضوعي لهذه الرسالة؛ فسيمكننا أن نستخلص مجموعة من الإشارات والرسائل المهمة على النحو التالي:

أولاً: إن جهاد الحداد "محتجز"، في حبس انفرادي، في أشهر سجون مصر.

ثانياً: إن الحداد يكتب هذه الرسالة رداً على المناقشات الجارية في الولايات المتحدة بخصوص اعتبار تنظيم "الإخوان" جماعة إرهابية.

ثالثاً: إن تنظيم "الإخوان" ليس إرهابياً، ويحترم قيم العدالة والمساواة وسيادة القانون، وينشغل سياسياً بتلبية احتياجات الشعب المصري. ثمة الكثير من الإشارات الأخرى التي ينطوي عليها المقال، لكنها أقل أهمية وقدرة على التفسير والإيحاء من تلك الإشارات، والتي يثبت بتحليلها أنها متناقضة ومتهافتة في آن واحد. لا يمكن أن يستقيم كون جهاد الحداد "محتجزاً" في حبس انفرادي، في أشهر سجون مصر، وأن يستطيع أن يكتب مقالاً ويسربه، ليجده منشوراً في إحدى كبريات صحف العالم التي يعجز كثيرون من رموز العالم وقادته عن نشر مقالات فيها أحياناً.

وإذا تم التسليم بأن الحداد استطاع أن يكتب هذا المقال خلسة، وأن يسلمه إلى أحد المحامين أثناء حضور إحدى جلسات محاكمته، فكيف يمكن أن نصدق أنه استطاع أن يتابع النقاشات الجارية في المجتمع الأميركي بشأن تصنيف "الإخوان" كجماعة إرهابية، في ظل الأجواء التي تُشاع عن بشاعة "الحبس الانفرادي" في ظلمة أحد أشهر قلاع القمع المفترضة في مصر.

وبعيداً عن عدم وجود تفسير مقنع لخروج مثل هذا المقال في ظل تلك الظروف المفترضة، يثور السؤال عن الدوافع التي وجدت "نيويورك تايمز" أنها قوية بما يكفي لكي تنشر مثل هذا المقال، وأن تبدأه بالإشارة إلى أنه كُتب في "طرة"، مع العلم أنه يطرح افتراضاً نظرياً أيضاً عن "جماعة تحترم قيم العدالة والمساواة وسيادة القانون يتم اضطهادها وسجن أعضائها"، في وقت تتوافر فيه ذرائع منطقية عديدة أخرى عن "جماعة سرية فاشية دينية، مارست الحكم، واستخدمت أساليب القمع وأدوات الاستبداد، قبل أن تُطاح عبر هبة شعبية، ساندتها مؤسسات الدولة الرسمية".

فهل نشرت "نيويورك تايمز" هذا المقال، ضمن سلسلة من الممارسات الأخرى التي تقوم بها، مع عدد كبير من وسائل الإعلام الليبرالية الأميركية، لأنها تؤيد "الإخوان"، أو تصدق أنه "تنظيم ديمقراطي يحترم القيم الغربية، لكن العسكر انقلبوا عليه"، أو لأنها باتت عرضة لأنشطة شركات العلاقات العامة التي تتقاضى ملايين الدولارات من الجماعة وتستخدمها لإيجاد مساحات لها في الوسائط الأميركية النافذة؟ هناك من المحللين والسياسيين من يعتقد أن إدارة أوباما كانت تدعم "الإخوان" لأنها تميل لهم سياسياً، أو تريد "استخدامهم في خطة تدمير العالم العربي"، أو أن الجماعة استطاعت أن تخترق تلك الإدارة عبر تجنيد أو زرع أعضاء فيها، وهناك أيضاً من يتصور أن المجتمع السياسي الليبرالي الأميركي "مثالي ومستقيم" إلى درجة أنه يتعاطف مع "الإخوان" لأنهم "ديمقراطيون منتخبون تمت إطاحتهم بواسطة سلطة عسكرية".

توجد أيضاً وثائق وأدلة وجيهة تشير إلى عقود وقعتها الجماعة مع شركات علاقات عامة أميركية معروفة، وإلى جهود منسقة بُذلت على مدى عقود لبناء نقاط ارتكاز "إخواني" في الحياة الإعلامية الأميركية.

سيمكن أن توفر تلك التفسيرات ذرائع وجيهة لفهم بعض الممارسات الإعلامية الأميركية التي تجتهد في مناصرة تنظيم "الإخوان" والدفاع عنه، إلى درجة يتم فيها الاعتداء على المنطق، والتنكر للقيم الغربية المعُلنة، خصوصاً في ما يخص احترام التعدد، والتنوع، وفصل الدين عن السياسة، ومكانة المرأة، وإثارة الكراهية، والطعن في أتباع الأديان، وتجريح المعتقدات.

لكنها مع ذلك لن تكون قادرة على تقديم التفسير الكامل والمقنع لهذا الاختراق الواضح الذي تحققه الجماعة في المجتمع الإعلامي الليبرالي الأميركي.

إن شركات العلاقات العامة تؤدي دوراً، والفهم السطحي غير المدروس للواقع العربي عموماً يؤدي دوراً، وانحياز النزاهة (مناصرة الأضعف) يؤدي دوراً، وبعض الأخطاء والقصور في أداء النظام المصري، وأنظمة عربية أخرى، يؤدي دوراً في تعزيز نقاط الارتكاز التي يتمتع بها تنظيم "الإخوان" في الإعلام الأميركي.

لكن الدور الأكبر الذي يرجح كفة "الإخوان" في هذا الوسط الإعلامي يعود إلى "زواج المتعة" الذي يتفاعل الآن بين المنصات الإعلامية الليبرالية المعادية للرئيس ترامب من جانب، وبين تنظيم "الإخوان" من جانب آخر.

وفي هذا النوع من الزواج يقرر الطرفان تحقيق الاستفادة لوقت محدد سلفاً، وبعد إدراك غايتهما يمكن أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً؛ حيث يستخدم الليبراليون ملف "الإخوان" في الضغط على ترامب، ويستخدم "الإخوان" الإعلام الأميركي في تبييض صورتهم، وتلطيخ سمعة أعدائهم.

* كاتب مصري