لم يكن متوقعاً أن تتردى العلاقات بين تركيا وبين ألمانيا وهولندا، حتى وصلت إلى هذا الحد الذي وصلت إليه، وحيث أغلب الظن لو أن هناك حدوداً مشتركة بين هذه الدول الثلاث لكانت الجيوش الآن ترابط مستنفرة على هذه الحدود، ولربما اندلعت حرب طاحنة قد تصل إلى استخدام الأسلحة التي لا تستخدم في العادة في الحروب التقليدية التي يبدو أنها أصبحت من مخلفات الماضي!

إنه لا يمكن "تصديق" كل هذه الأعذار والحجج التي قيلت تبريرا لوصول الأمور بين هاتين الدولتين الأوروبيتين وبين تركيا إلى ما وصلت إليه، ويبدو أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأسباب الحقيقية ليست كل هذا الذي يقال حول أن الألمان والهولنديين قد منعوا "استفتاء" الجالية التركية في هاتين الدولتين على الصلاحيات التي يريدها رجب طيب إردوغان في الدستور التركي الجديد، لأنها تتعارض مع القيم الديمقراطية الأوروبية.

Ad

لقد بقيت تركيا تقرع أبواب الغرب الأوروبي لسنوات طويلة، منذ نهايات خمسينيات القرن الماضي، لكن هذه الأبواب بقيت مغلقة في وجهها إن في مرحلة السوق الأوروبية المشتركة وإن بعد ذلك، عندما قام الاتحاد الأوروبي، الذي خسر بريطانيا التي كانت تشكل جوهرة تاجه، وهنا فإن المعروف أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل كانت ولا تزال الأكثر رفضاً لعضوية هذه الدولة الإسلامية التي رغم "علمانيتها" المتراجعة فإنها لاتزال تذكر الأوروبيين بأن خيول فرسان الدولة العثمانية قد وصلت إلى فيينا التي تعتبر قلب القارة الأوروبية.

إن العذر الذي يسوقه الألمان والهولنديون، لمنع الاستفتاء الذي يريده الرئيس التركي بالنسبة للجالية التركية، التي يقال إن عدد منتسبيها قد تجاوز الخمسة ملايين، هو أن ما يطلبه إردوغان ويسعى إليه سيحوله إلى "دكتاتور" أو على الأقل إلى سلطان جديد كسلاطين الدولة العثمانية، وأن هذا لا يمكن أن تسمح به دولتان "ديمقراطيتان" أوروبيتان، خاصة أن أبناء هذه الجالية التركية أصبحوا مع الوقت مواطنين أوروبيين لا يجوز "استدراجهم" للخروج من أطرهم الديمقراطية والعودة إلى عهود السلاطين... وبالطبع فإن هذه الحجة غير مقنعة على الإطلاق طالما أن المواطن الأوروبي حر وباستطاعته أن يصوت كما يشاء، وأن يعبر عن ميوله بكل حرية وكما يريد!

وهكذا فإنه لم يعد هناك إلا اعتبار أن وراء كل هذا التردي في العلاقات بين تركيا وبين هاتين الدولتين الأوروبيتين هو كل هذا التقارب المتسارع بين الأتراك والروس، الذي لا شك أن الأوروبيين يخشون من انعكاسه على دول أوروبا الشرقية التي يبدو أنها لم تصدق حتى الآن أن حلف وارسو قد انهار، وأن الاتحاد السوفياتي لم يعد له وجود، وأن كل ما تعيشه الآن هو مجرد حلم وردي في ليلة مقمرة!