قدمت أزمة مستأجري سوق المباركية التراثي مع الشركة المديرة للمشروع نموذجا مصغرا لنتائج الخصخصة غير الرشيدة التي تؤدي غالبا إلى أزمات تخالف الرغبة النظرية في إيجاد الحلول!

فرغم أن الخصخصة التي شهدها السوق لم تكن للأصول والملكيات العقارية بل اختصت فقط بجانب إدارة المشروع، فإنها نبهت إلى مجموعة من الملاحظات الأساسية التي أغفلتها الدولة، أولها أن عملية بيع إدارة المشروع لم تراع طبيعة السوق الشعبي وبضائعه الرخيصة وإيرادات محلاته المحدودة، وبالتالي صعوبة رفع الإيجارات على المستثمرين فيه، فضلا عن أن تركيز الجهة الحكومية، وهي «هيئة الشراكة بين القطاعين العام والخاص»، انصب على حصول الدولة على أعلى العوائد المالية لتحديد الفائز دون التزام بجودة الخدمة، والقصد هنا المحافظة على تراثية المنطقة وهويتها وعدم السماح- لما تبقى منها- بالاندثار في مشاريع لا تمت لهوية المباركية بصلة.

Ad

تملص الدولة

أما الملاحظة الأهم، فتظهر في تملص الدولة من مسؤوليتها في إدارة الأزمة بين المستأجرين والشركة الجديدة، إذ أعلنت هيئة الشراكة على لسان مديرها، لـ«الجريدة»، أن دورها تجاه أزمة المباركية انتهى بانتهاء المزاد وتحصيل أعلى قيمة مالية للدولة، وهذا مثال سيئ على إدارة عمليات الخصخصة ومعالجة أي سلبيات متوقعة منها.

اللافت في أزمة المباركية أن السوق لم يكن لسنوات طويلة تحت إدارة الدولة المباشرة، بل كانت تديره شركة خاصة بنظام «بي أو تي»، وهو ما سمح لها بإدارة المشروع من الناحيتين الربحية والخدمية بشكل جيد جدا، إلا أن الخلل كان عندما استهدفت hg],gm تحقيق أعلى العوائد المالية عبر طرحها بالمزايدة بغض النظر عن نوعية الخدمة وجودة الرعاية التراثية، فضلاً عن الارتفاع القياسي في أسعار الإيجارات لمستويات توازي 3 أضعاف السعر الإيجاري الحالي.

الشركة المديرة الجديدة لسوق المباركية تبتغي تعويض ما دفعته لشراء حق الإدارة- نحو «3.6 ملايين دينار» مدة 10 سنوات- على ما يبدو بأسرع فترة ممكنة دون النظر إلى الاعتبارات الخاصة بطبيعة السوق وبضائعه، وهنا يقع العبء الأكبر على من خطط لبيع إدارة السوق دون النظر للأسعار التقليدية السائدة فيه، وتخلى عن دوره لاحقاً في الدخول كطرف ثالث لحل الأزمة بين المستأجرين والشركة الجديدة.

قطاعات أكبر

ولعل ما حدث في المباركية يفتح المجال لأسئلة أكبر عن فلسفة الدولة في تحويل الملكيات العامة، وليس فقط إدارتها، إلى القطاع الخاص، مادامت عمليات التخصيص البسيطة والمحدودة النطاق تنتج فوضى وأزمات غير محسوبة، بمعنى أنه إذا كان تخصيص إدارة سوق شعبي تراثي يشهد كل هذه المشكلات فكيف سيكون الحال عندما تنفذ الحكومة سياساتها المعلنة بخصخصة قطاعات من النفط والكهرباء والماء والصحة والتعليم؟!

فالخصخصة لا يمكن حصرها في مجرد بيع أصول وملكيات عامة إلى القطاع الخاص، فهذه نظرة محدودة جداً، وتعطي نتائج اجتماعية واقتصادية سلبية، فالخصخصة تستلزم وجود فوائد للدولة بعضها مالي وبعضها الآخر يتعلق بالوظائف وسوق العمل وكذلك مستوى وجودة الخدمة المقدمة للسوق، ولأننا في الكويت تعتبر الدولة هي المالك الأكبر لمعظم الأنشطة الاقتصادية فالأجدى أن تقدم الحكومة نماذج صغيرة جيدة لعمليات التخصيص، تطرح بعدها مشروعات أكبر بشكل تصاعدي، إلا أن التعثر في مشروع سوق شعبي وتراثي يعطي صورة سيئة للمجتمع عن أي عمليات خصخصة مقبلة، وخصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بقطاعات أكبر.

ليست نقلاً للملكية

مشكلة مشاريع الخصخصة في الكويت أنها تركز دائما على مسألة نقل الملكية وقيمتها في ميزانية الدولة، ولا تتحدث مثلا عن فرص العمل المستهدفة داخل القطاع المخصص، أو جودة الخدمة، إلا أن الحكومة في موضوع أزمة المباركية تخلت عن دورها في متابعة الأزمة بين المستأجرين والشركة المديرة، وهنا لا يمكن تخيل الأزمات المتوقعة لو تكرر هذا الدور الحكومي السلبي بعد خصخصة شركات أو قطاعات نفطية، فضلاً عن أخرى خدمية كالكهرباء مثلاً، والعلة هنا ليست في الخصخصة كمشروع اقتصادي تطبقه العديد من الدول المتقدمة، بل في إدارة، لا خصخصة، حتى الأنشطة التجارية البسيطة.

قبل الحديث عن الخصخصة لابد من تحديد أدوار الدولة كجهة إشراف ورقابة عبر وجود هيئات منظمة تتولى تنظيم القطاع المراد تخصيصه، كما يتوجب تنظيم التنافس بين الشركات وضمان حقوق المستهلك والعمالة وجودة الخدمة، فضلاً عن دور الدولة كمرجع لدراسة جدية العروض والأسعار وشكاوى المستهلكين، بل والأهم خلق أوعية ضريبية لتحصيل الإيرادات العامة للدولة بعد التخصيص، ولذلك من غير المفهوم استعجال الدولة في طرح مشروعات خصخصة قبل حتى إيجاد الوعاء الضريبي على الأعمال.

أضرار

مسؤولية الدولة التي تركز في مشاريعها المتنوعة كمشروع الإصلاح الاقتصادي والمالي ورؤية الكويت 2035، إلى جانب خطط التنمية وبرنامج عمل الحكومة على الخصخصة كبوابة للتنمية والإصلاح الاقتصادي، أن تقدم نموذجها السليم في هذا الجانب، لا أن تركز على نقل الملكية وتحقيق العوائد المالية دون الالتفات إلى الأضرار الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما أن خصخصة قطاعات أكبر ستنعكس سلباً ليس فقط على أسعار مستلزمات استهلاكية، بل على سوق العمل والبطالة والتضخم وتآكل الطبقة الوسطى بشكل أسرع من المتوقع.