مسرحية «ما فينا ندفع ما لح ندفع» بعبثيتها وتهكمها هي من الصعوبة بمكان، لا سيما أنها تندرج ضمن الخط الذي انتهجه داريو فو وهو commedia dell'arte الذي اشتهر في القرن السادس عشر، ويقوم على الارتجال على المسرح وعلى السذاجة، المكر والإبداع. وقد نجحت المخرجة لينا أبيض في تحريك الممثلين ضمن هذا الخط، فعكسوا خط داريو فو، لكن من دون أن يكونوا نسخة طبق الأصل عن الشخصيات التي رسمها الكاتب. ذلك أن المخرجة لينا أبيض لبننت النص إلى حد كبير وضمنته إسقاطات على الوضع اللبناني، كيف لا وقضية الإنسان المقهور الذي يمسه الظلم في لقمة عيشه ليست وقفاً على الأحزاب والتيارات اليسارية فحسب، بل تطاول كل الحركات والتيارات في كل زمان ومكان. تتكامل العناصر التي تتألف منها المسرحية، فالثياب والديكور على المسرح والإضاءة فضلاً عن أداء الممثلين (ياسين عبود، هبة سليمان حيدر، علاء عيتاني، دارين شمس الدين، سني عبد الباقي، باسل ماضي)، رسمت على المسرح قهر المواطن وبطش السلطة. واللافت هنا اللعبة بين الشخصيات وممثلي السلطة ويبدو كلاهما من السذاجة بمكان بحيث تدبر كل فئة المكائد للأخرى فتقع هي فيها. هذه العبثية الساخرة والمبكية في آن، عزفت المخرجة لينا أبيض عليها لتوصل الرسالة إلى الجمهور كما تريدها هي وكما يريدها الكاتب داريو فو، وهي الانحياز إلى المسحوقين والانتقاد الشديد للسلطة.
عمال وسلطة
دهشت ريتا وأنطوانيت، وهما ربتا منزل من الطبقة العاملة، للسلع التي سرقتاها من السوبرماركت، احتجاجاً من نساء المحلّة على الأسعار المرتفعة. وخشيت أنطوانيت أن يجبرها زوجها طوني، وهو عامل مصنع شيوعي، على ردّ غنيمتها. لاحظ انتفاخ معطف ريتا فقيل له إنها حامل. أصيب طوني بالفزع لأن بعض العمال رفضوا أن يدفعوا ثمن الطعام مرتفع السعر في مطعم المعمل، وحذّر أنطوانيت من المشاركة في احتجاج السوبرماركت. حين راحت الشرطة تفتّش المنزل، ادعت ريتا أنها في مخاض، فحُمّلت في سيارة إسعاف.دهش مطانيوس زوج ريتا حين علم أنه سيصبح أباً عما قريب، ومضى يبحث عن زوجته. تبلّغ طوني ومطانيوس أنهما فقدا وظيفتهما، وحين انقلبت شاحنة في الشارع سارعا إلى سرقة أكياس من السكّر. ظنّ المفتش الذي كان يفتش المرأتين اللتين عادتا إلى البيت، أنه أصيب بالعمى، حين انقطع التيار الكهربائي فأغمي عليه. واعترفت المرأتان لزوجيهما بأنهما كانتا تسرقان، فوافق الرجلان على فعلتهما، وحين عاد المفتش إلى وعيه، كان مسروراً بعودة البصر إليه فغادر البيت راضياً.هذه المشاهد تشكل في مجملها محور المسرحية، ولا شك في أن هذا النمط من المسرح يهابه الممثلون المحترفون فكيف إذا كان هؤلاء مجموعة من الشباب الهواة؟ هنا يكمن سر إبداع المخرجة لينا أبيض التي دربت هؤلاء الشباب على أحد أصعب أنواع المسرح، وكان أداؤهم على المسرح جميلاً ما خلا هفوات صغيرة لا يجدر التوقف عندها، أمام اضطلاعهم بعمل مسرحي لأحد أكبر المسرحيين في القرن العشرين، ولا يمكن في هذا المجال إلا الاعتراف بأن المخرجة لينا أبيض تراكم في أرشيفها المسرحي أعمالاً تغوص عميقاً في قضية الإنسان، من العنف ضد المرأة إلى المهجرين السوريين في أصقاع العالم... وفي كل مرة تأسر الجمهور بطريقة تعاملها مع هذه القضايا وإدارتها للممثلين الذين يتقمصون الشخصيات التي يجسدونها بحيث تذوب شخصيتهم الأساسية ولا يبقى على المسرح إلا العيّنة من الناس التي تدور حولها الأحداث. داريو فو
داريو فو (24 مارس 1924-13 أكتوبر 2016)، ممثل إيطالي، كاتب مسرحي، مغنٍّ، مخرج، مصمم، كاتب أغنيات، رسام، ناشط سياسي لصالح التيار اليساري. فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1997. يعتبر أحد أكثر كتّاب المسرح انتشاراً في العالم المعاصر. تستند أعماله المسرحية إلى الارتجال وتستعيد أشكال المسرح «غير الشرعية»، مثل تلك التي كان يعتمدها الممثلون الجوالون في القرون الوسطى الذين كانوا يسمَون giullari. شكّل حصول فو على جائزة نوبل للآداب سنة 1997، اعترافاً دولياً بأنه مسرحي أساسي في عالم المسرح في القرن العشرين. وامتدحته الأكاديمية السويدية بصفته كاتباً يحاكي مهرجي العصور الوسطى بنقده الشديد للسلطة وانحيازه إلى كرامة المسحوقين.