في مقابلة شهيرة، ربما هي الأكثر شهرة، للروائي الأميركي وليم فولكنر، أجرتها معه الكاتبة الروائية جين شتاين، ونشرتها مجلة "باريس ريفيو"، سألته الروائية عن سبب تهربه من المقابلات الصحافية، فرد فولكنر بأن "المحاورين غالبا ما يسألون عن شخصي لا عن عملي، لذا أغضب وأرد بعنف على تلك الأسئلة الشخصية". ويذكر أنه كان أحيانا يجيب عن هذه الأسئلة، وحين يسأل السؤال ذاته يجيب إجابة مختلفة عن سابقتها. وتلك إشكالية تواجه كثيرا من الكتاب والأدباء حين تتوجه الأسئلة إلى حياتهم أكثر من توجهها إلى أعمالهم دون أن يتم التفريق بين الكاتب كشخص ونصه. الكاتب يحاكم سياسيا واجتماعيا بعيدا عن كتبه، التي في كثير من الأحول تكون أفضل من شخصيته العامة التي ابتدعتها. وفي المقابل يتم الاحتفاء بشخصه أكثر من الاهتمام بعمله وإن كان من خلال هذا العمل.

ما يطرحه فولكنر هنا هو أن يبتعد بشخصيته ككاتب عن نصه الذي أنتجه، فهو ليس مهما كشخص، ولا يختلف عن سواه من الناس لولا هذا النص. وحين ينتهي كما ينتهي كل شخص لن يبقى سوى النص الذي كتبه. أغلب الكتب التي نقرأها اليوم لتولتسوي ودايستوفسكي وفلوبير ليس من أمل في لقائهم شخصيا أو التعرف على شخوصهم. وربما الأمر يكون أكثر تعقيدا حين نبحث عن كتاب نصوص وليم شكسبير، التي يتنافس عليها أكثر من كاتب. لكن تبقى مسرحيات هاملت والملك لير وماكبث وغيرها أكثر أهمية بالنسبة لنا من كاتبها. فلم يهتم أحد من غير المتخصصين في دراسة شخصية شكسبير بدراسته كشخص مقارنة بآلاف الدراسات التي تناولت أعماله، والتي تتكرر كل عام وفي كل مؤسسة ثقافية.

Ad

يقودنا هذا إلى العلاقة بين الناقد والكاتب والنص، وتلك الحساسية الغريبة يفرضها الكاتب على زميله الناقد، والذي غالبا ما تربط بينهما علاقة صداقة تقف حائلا دون الإخلاص للكتابة النقدية. تفرض هذه العلاقات أن تضيق المساحة بين الكاتب والناقد، وتفرض على الكتابة النقدية افتقاد الحياد وكيل سيول المديح لنص لا يستحق ما قيل فيه. يفضل الناقد الصادق مع نفسه أن يمتنع عن نقد نص لزميل له، لمعرفته السابقة بأن الكاتب لا يفرق بين شخصه ونصه، ويعتبرهما ذات واحدة لا يمكن الفصل بينهما.

الحالة الأكثر بشاعة هي حين يكون الكاتب مشرفا على مؤسسة ثقافية ما أو رئيس لجنة جائزة، فهذا النفوذ يجعل من عمله إحدى معجزات القرن، والعمل الذي عجزت عنه الأوائل. تتكالب أصحاب المنافع على مديح الكاتب والشهادة "بإبداعه" ليكتشف هو شخصيا أنه الكاتب الأول والأخير.

جميع هذه المجازر النقدية سببها هو ما بدأنا به المقال، وهو حضور شخصية الكاتب وهيمنتها على المشهد النقدي. فأصبح، وخصوصا خليجيا اليوم، من الصعب أن نثق بالممارسة النقدية التي تعتمد على كل شيء عدا النص المكتوب. والذي لا يفهمه الناقد والكاتب معا بأن القارئ اليوم يعرف جيدا حقيقة العلاقة بين شخص الكاتب ونصه والناقد الذي يضحي بمصداقيته.