ما قل ودل: برلمان الثورة وحصادها في مصر

نشر في 19-03-2017
آخر تحديث 19-03-2017 | 00:09
القضية الأخطر التي جرتني إليها المعركة الحامية بين مجلس النواب والصحافة، هي حق النائب في أن يعبر عن رأيه بحرية كاملة، لا يخضع فيها لأي مؤاخذة أو محاسبة من أي نوع، سواء تحت قبة البرلمان أو خارجه، ولو وقع بعض الشطط أو الإفراط في النقد.
 المستشار شفيق إمام

حق الصحافة في النقد

كان يفترض في هذا المقال أن يحمل عنوان المقال السابق ذاته "ربيع ساخن ومعركة حامية وقصف متبادل بين برلمانين (2-2)، وأقصد بهما مجلس النواب المصري والصحافة البرلمان غير المنتخب، وفقا للقب الذي أطلق عليها الدكتور الراحل أحمد لطفي السيد، والتي تعرضت لهجوم مجلس النواب في جلسة صاخبة انتهت بتفويض رئيس البرلمان في تقديم بلاغ إلى النائب العام ضد الكاتب الصحافي اللامع إبراهيم عيسى، لما نسبه إليه رئيس البرلمان من إهانته للمجلس، وكنت أزمع في الحلقة الثانية في مقالي السابق أن أدافع تحت هذا العنوان عن حرية الصحافة في نقد ما تراه مستوجبا للنقد من مؤسسات الحكم، ومن رجال يتربعون على كراسي هذه المؤسسات، فنقد أعمال هذه المؤسسات ونقد رجالها هو أكبر اعتراف بقدرها وقدرهم، وإن انشغال الصحافة السلطة الرابعة (البرلمان غير المنتخب) عن أمور هذا المجلس، إلى غيره من مؤسسات الدولة، أو إلى غير ذلك من أمور ينشغل بها الناس، من شأنه أن يفقد هذا المجلس شرعيته ومبرره.

وطالما أن الخطأ وارد فإن النقد واجب، وإن دور الصحافة أن تسلط الضوء على نقاط الضعف في مؤسسات الحكم، التي لا مندوحة عنها في كل عمل إنساني، ليطلق طاقة الإبداع في هذه المؤسسات، لتقصير المسافة الممتدة بين عمل اليوم وطموح الغد، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن قبول الشخص للعمل العام يضع قيدا على حقه في الخصوصية، لأن مصالح المجتمع يجب أن توضع في كفة الميزان الأخرى عند الموازنة بينها وبين الحق في الخصوصية.

إلا أنني، لهول ما شاهدت من ممارسات برلمانية لرئيس مجلس النواب الدكتور علي عبدالعال في إدارته للجلسات، تعدت الحدود التي يجب أن تقف عندها هذه الإدارة إلى حرمان أعضاء البرلمان أنفسهم من حرية الرأي، فإنني أستميح القارئ عذرا في تغيير عنوان المقال السابق إلى العنوان الجديد.

مارغريت تاتشر والمليفي والتقاليد البرلمانية

فالقضية الأخطر التي أتناولها في هذا المقال، والتي جرتني إليها المعركة الحامية بين مجلس النواب والصحافة، هي حق النائب في أن يعبر عن رأيه بحرية كاملة، لا يخضع فيها لأي مؤاخذة أو محاسبة من أي نوع، سواء تحت قبة البرلمان أو خارجه، ولو وقع بعض الشطط أو الإفراط في النقد. ولا أجد مثلا أسوقه للتدليل على صدق ما أقول من أنه في مجلس العموم البريطاني أعرق وأول برلمان نشأ على هذا الكون، وقف نائب ينتقد حكومة مارغريت تاتشر المرأة الحديدية، موجها كلامه لها قائلا: إنك لا تصلحين إلا لكي تكوني إحدى فتيات الليل في ريجنت ستريت، فردت عليه بهدوء شديد ودون غضب أو انفعال قائلة: لقد فات النائب المحترم أن هذا الشارع هو في قلب عاصمة بريطانيا العظمى، وأنه جزء لا يتجزأ من هذه الدولة. فأي تقاليد برلمانية يرددها د. علي عبدالعال تحول دون أن يبدي النائب رأيه بحرية وصراحة وشجاعة، تستحق طرد النائب من قاعة المجلس، وحتى لا ننساق وراء أكذوبة كبيرة، وهي أن هذا يحدث في الغرب، وهو ما تحول أخلاقنا وتقاليدنا دون حدوثه عندنا! أسوق له مثلا في الكويت التي كان يعمل فيها مستشارا بالديوان الأميري، وعاصر تجربة ديمقراطية حية ورائدة، عندما وقف النائب المحترم أحمد المليفي ليقول في جلسة علنية لمجلس الأمة إن وزراءنا في مزبلة التاريخ، لم يطرد من الجلسة أو يفصل من المجلس، بل أصبح بعد بضع سنوات وزيرا للتربية والتعليم في الحكومة، لأن ولاة الأمر في الكويت، لا تضيق صدورهم بالنقد ولو شابه كثير من التجاوز وبعض التجريح، لأنهم هنا في الكويت يؤمنون بأن الدستور هو أبو القوانين، وهو أسمى من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، التي تتيح لرئيس المجلس، بعد موافقة المجلس، إخراج العضو من الجلسة إذا أخل بنظام الجلسة، فالدستور وهو الأسمى والأعلى مرتبة من اللائحة ينص على أن "عضو مجلس الأمة حر فيما يبديه من الآراء والأفكار بالمجلس أو لجانه، ولا تجوز مؤاخذته على ذلك بحال من الأحوال".

ويردد الدستور المصري الحكم ذاته فيما تنص عليه المادة 112 من أنه "لا يسأل عضو مجلس النواب عما يبديه من آراء تتعلق بأداء أعماله في المجلس أو في لجانه"، وإن كان النص المقابل لهذا الحكم في الدستور المصري لم ينص صراحة على حرية النائب في إبداء رأيه، بل اكتفى بالنص على عدم مؤاخذة العضو على آرائه في المجلس أو في لجانه، بحيث بدت الصياغة التشريعية للنص الكويتي أفضل بكثير من النص المصري لأن النص الكويتي يرسخ معنى الحق الدستوري، فيما نص عليه من حرية النائب في إبداء رأيه، أمام عدم مؤاخذة العضو على آرائه التي يبديها في المجلس أو في لجانه، بغير اعتراف بالحق الدستوري ذاته فقد تؤخذ على محمل التسامح.

الثورة تأكل أبناءها

وكان يفترض في برلمان ثورة التصحيح أن يكون اللسان الذي يعبر عن هذه الثورة وعن ثورة 25 يناير في الإيمان بالحرية التي نادت بها هاتان الثورتان، والتي كانت ترفع شعارها "عيش.. حرية.. عدالة" وأن الحرية التي عناها ملايين المصريين الذين خرجوا يرفعون هذا الشعار، هي حرية كل المصريين، من كل الأطياف والألوان والأيديولوجيات والأحزاب، وليست حرية ائتلاف دعم مصر صاحب الأغلبية الساحقة في مجلس النواب، والذي غالى وبالغ في دعمه لرئيس المجلس بالموافقة على إسقاط عضوية كل من النائب توفيق عكاشة والنائب محمد أنور السادات، ولا أذكر أن أحداً اعترض على فصل الأول، وإن كنت أذكر أن ثمانية فقط من أعضاء البرلمان قد عارضوا هذا القرار بالنسبة إلى الثاني، وخرج من القاعة ائتلاف 25-30 قبل التصويت، ولا ألومهم، كما وجه إليهم اللوم الكاتب الكبير أسامة الغزالي حرب، فالخروج من الجلسة قبل التصويت هو أشد رفضا للقرار من التصويت عليه بالرفض، أمام قرار مسبق أعد له في ائتلاف دعم مصر الحاصل على الأغلبية الساحقة في كراسي البرلمان.

فصل د. توفيق عكاشة

وقد استند قرار فصل النائب توفيق عكاشة إلى استقباله للسفير الإسرائيلي في منزله، إلا أن السبب الحقيقي لحرمانه من عضوية المجلس أنه سيقض مضاجع رئيس البرلمان والسلطة، خصوصا أنه يعتقد أنه مفجر ثورة التصحيح بالحشود التي كان يجمعها في ساحة المنصة التي اغتيل عليها الرئيس الراحل أنور السادات، وبالخطب النارية التي كان يلقيها على هذه الجموع، ضد الرئيس الأسبق محمد مرسي، وحيث سخر قناة الفراعين التي كان يملكها والتي كانت بدورها تشن هجوم عليه وعلى حكومته وبرلمانه قبل 30 يونيو، خصوصاً أنه لم يحصل على نصيبه من حصاد ثورة التصحيح، وقد يحوله ذلك إلى معارض يخشى بأسه. وأستعيد، بالنسبة إلى هذه الواقعة، الهجوم الذي شنه بعض أعضاء مجلس الأمة على أحد المواطنين، وهو صحافي زار إسرائيل، ولم يكن يتمتع بحصانة برلمانية أو قضائية تحول دون محاكمته، ولم يفصل من عمله أو يحرم من مزاولة مهنته لأن حرية الرأي وحق التعبير عنه هي أحد المقومات الأساسية للمجتمع:

"الحرية بالنسبة إلى واقع الكويت تستمد جذورها من جوف الصحراء، حيث نشأ هذا المجتمع، فأصبح الإيمان بها من وحي فطرة سليمة في ضميره، وكما يقول أديبنا الكبير الراحل عباس العقاد في كتابه "الديمقراطية في الإسلام" إن هذه الحرية لم تنعم بها المجتمعات العربية لأن أحداً أراها وشرع مبادئها، بل هي حرية واقعية غير مقصودة، وليست بالحرية الفكرية المقصورة على مبادئها المقررة.

(من مقال لي نشر على صفحات "القبس" في عددها الصادر 26/ 3/ 1995).

فصل محمد أنور السادات

أما محمد أنور السادات فقد عوقب بفصله من عضوية المجلس بسبب حديث أدلى به عن أداء المجلس لمنظمة دولية وباللغة الإنكليزية، وكان النائب السادات قد اعترض على قيام البرلمان بإنفاق مبلغ 18 مليون جنيه، لشراء ثلاث سيارات فارهة لمجلس النواب، الأمر الذي اعتبره رئيس مجلس النواب إفشاء سر من أسرار الأمن القومي، وأن الإعلان عن موازنة البرلمان على صفحات الصحف هو أمر محظور على النواب. ومن الجدير بالذكر أن سبب إنشاء أول برلمان في العالم، وهو البرلمان الإنكليزي، هو رغبة الأشراف في الرقابة على الإنفاق الحكومي من الضرائب التي يدفعها هؤلاء إلى الملك والتي كانت تزداد سنويا. حيث اعتبر رئيس البرلمان د. علي عبدالعال أن الخوض في هذا الموضوع، وهي سيارة مصفحة لتوفير أمنه، هو سر من أسرار الأمن القومي، وأن ميزانية المجلس ذاتها أمن قومي. وللحديث بقية حول التقاليد البرلمانية التي يظل رئيس البرلمان يرددها كلما طرد أحد أعضاء البرلمان من الجلسة لخروجه على هذه التقاليد، ولعل خروج رئيس البرلمان على هذه التقاليد هو الذي حدا بالنائب سري صيام، رئيس محكمة النقض الأسبق إلى تقديم استقالته من المجلس، فهو المستشار الأديب الذي كان عضوا في لجنة تدوين التقاليد والسوابق البرلمانية.

يفترض في برلمان ثورة التصحيح أن يكون اللسان المعبر عن الإيمان بالحرية التي نادت بها هي وثورة 25 يناير
back to top