في جوف مجتمعنا الصغير معركة تحتدم ضد الفساد، والسمتان المائزتان لها تتجليان في أن رحاها تدور بإيقاع يومي منهك لطاقاتنا وضمائرنا، وأنه لا توجد أيقونات وطنية تحمل لواءها، بل أفراد أثيريون يتحركون خلف حجب الواقع الافتراضي. وهذا الأمر يشير، بادئ ذي بدء، إلى عزوف النخب المثقفة عن اتخاذ مواقف معلنة وصريحة من الفساد وسدنته، وانحسار الإسهام الثقافي في تلك المواجهة التي هي، إن جاز لي القول، مصيرية وتحفر بإزميلها وجه مستقبلنا.

إذ بين الثقافة والشجاعة صلة خاصة، فالحياة في الفضاء الشخصي والخاص تتطلب دوما حزمة من المواقف الشجاعة، وأحيانا بحجم استثنائي، ولكن أبعد من ذلك بكثير وأعمق منه غورا، طراز آخر من الشجاعة يتطلبه كون المرء إنسانا، إنها شجاعة مواجهة التدمير المادي والمعنوي لمقدرات المجتمع، وإحالته إلى جثة مفرغة أحشاؤها، فهذه وحدها ما تصنع الفرق في مضمون الحياة ونوعها.

Ad

المثقفون وحدهم يدركون مقدار العنفوان الأخلاقي وشدة توغله في أعماق الإنسان، ولهذا يتطلب كون الإنسان مثقفا المشاركة الاجتماعية التي في جذورها التأسيسية تتعلق بالصواب والخطأ والفضيلة والرذيلة، فمن الصعب أن يحيا المرء سني عمره أسيرا وخانعا للأفكار وحدها ويتطير من المجتمع وقضاياه، فالمثقف لا يتأطر دوره في الانخراط بالأنشطة الإبداعية والذهنية وحدها، بقدر ما يتمدد ويتنامى من خلال الإيمان بالمسؤولية الاجتماعية واتخاذ موقف سياسي.

قطعا لا يتوق العاملون في الحقل الثقافي جميعهم للمشاركة الاجتماعية، ولكن بوصفهم شريحة أو فئة متميزة، فإن الحياة السياسية والشأن العام غالبا ما يشدانهم إلى قضاياهما، وكان ريجس دوبرييه الفرنسي محقا حين ذكر في دراسته عن المثقفين الفرنسيين أن مستوى التعليم ليس هو من يحدد المثقف بل مشروعه نحو التأثير في العامة، وهذا قول في غاية الوجاهة لأن مشروع المثقف هو دوما مشروع أخلاقي ذو طلاء سياسي.

ولا يومئ هذا القول إلى إمكان استسلام المثقف لغواية السياسي، أو لضرورة تجسد هذا المشروع الأخلاقي في حزب وحيد، بقدر ما يشدد على أهمية انخراط المثقف في الملحمة العظيمة لمواجهة الفساد وإنارة عقول العامة وقلوبهم، فقبل كل شيء المثقف لا تستهويه الأمور كما هي عليه، ولا يستحوذ على لبه السائد والشائع والتقليدي.