أمضى الصحافي الأميركي "مارك بيردسول" 35 عاماً من عمره في إجراء تحقيقات وكتابة مقالات عن العمل الاستخباراتي وقضايا التجسس، وفي عام 2015 أصدر كتاباً بعنوان "مستقبل الاستخبارات في القرن الحادي والعشرين"؛ وهو الكتاب الذي سعى إلى استشراف مستقبل عمليات التجسس وآفاق العمل الاستخباراتي في عصر التقنية ووسائل الاتصال المعاصرة.

يقول "بيردسول" في كتابه إن "العميل المفترض للاستخبارات البريطانية (جيمس بوند) حصل على مكافأة كبيرة من رؤسائه في الجهاز، لنجاحه في تحليل تغريدات بعض المستهدفين بالمراقبة من المشتبه فيهم، وتوصله إلى استخلاصات مهمة عبر تحليل سلوكهم على مواقع التواصل الاجتماعي".

Ad

ليست تلك سوى محاولة افتراضية لتجسيد ما ستكون عليه الاستخبارات اليوم وغداً؛ وهي محاولة أخذت "جيمس بوند" بعيداً عن رحلات الطائرات، ومطاردات السيارات، واستخدام الأسلحة السريعة، إلى صورة جديدة تماماً، يجلس فيها هذا العميل فائق القدرة خلف لوحة تحكم، حيث يرصد ويحلل أنماط استخدام المستهدفين والمشتبه فيهم لـ"السوشيال ميديا".

يشير هذا التطور إلى الدور الكبير الذي باتت تحظى به شبكة "الإنترنت" والممارسات التي نقوم بها عبرها في حياتنا المعاصرة من جانب، وفي أنماط التأمين والتتبع الاستخباراتي من جانب آخر، كما يكشف قيوداً جديدة على مفهومي الخصوصية والسرية؛ وهما المفهومان الاجتماعيان الآخذان في التراجع بصورة مطردة، تناسباً مع الصعود التقني والتقدم المذهل في عالم الاتصالات. تسعى سلطات بعض الدول راهناً إلى استخلاص قوانين تتيح لأجهزة الأمن بها إجبار المواطنين على الإفصاح عن كلمات المرور الخاصة بهم إلى حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتشتري دول أخرى أنظمة معقدة تتيح لها النفاذ إلى كل ممارسات المواطنين على "الإنترنت"، لكنّ ثمة أخطاراً أخرى ترد من مقدمي الخدمات أنفسهم.

ففي عام 2014 تسربت صور فاضحة وأسرار تخص أكثر من مئة نجمة وعارضة وممثلة شهيرة من "آي كلاود" (مخزن وثائق مستخدمي آي فون المدار بواسطة الشركة)، وقبلها كشف "إدوارد سنودن" العميل لدى أجهزة الأمن القومي الأميركي أن تلك الأجهزة "تتنصت على مواطنين وأجانب وقادة دول أخرى عبر وسائل الاتصال الرائجة"، كما باتت تسريبات "ويكيليكس"، و"وثائق بنما" عنواناً لحالة الانكشاف التي يعيش فيها أصحاب المصالح، بسبب إمكانية اختراق خزائن أسرار "الإنترنت".

بسبب التطورات التقنية الكبيرة، وتفاوت قدرات اختراقها وحمايتها، تطورت قدرة بعض الفاعلين على شبكة "الإنترنت" على اختراق سجلات الدولة الرسمية، وتسجيل محادثات الرؤساء والقادة، واستباحة صور الأشخاص في مخادعهم، وإحصاء أنفاس كل مستخدم لأي برمجة تقنية، وصولاً إلى إدانته، أو فضحه، أو ابتزازه. في مطلع الشهر الجاري فجر موقع التسريبات الشهير "ويكيليكس" مفاجأة صادمة جديدة، حين بدأ بنشر 8761 وثيقة سرية، قال إنها مأخوذة من ملفات وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، وهي وثائق تثبت، في حال كانت صحيحة، أن واشنطن تدير منظومة تنصت عالمية، تُمكّنها من انتهاك خصوصية مسؤولين، وحكومات، وأشخاص عاديين، في دول العالم المختلفة، عبر اختراق أجهزة الهاتف المحمول، و"الكمبيوتر"، والتلفاز.

يبدو أن الوثائق التي سربها "ويكيليكس" صحيحة فعلاً، أو هذا على الأقل ما قاله مسؤولون أميركيون تحدثوا إلى "سي إن إن" قبل أسبوعين، وهو أيضاً ما تعتقده المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي أكد الناطق باسمها أن بلاده "تأخذ هذا الأمر على محمل الجد".

في شهر أكتوبر من عام 2013 اعترف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأن حكومته تجري عمليات تنصت ومراقبة بحق أشخاص، ومسؤولين، وأعضاء في الكونغرس، وأيضا بحق بعثات أجنبية، وحكومات، وأجهزة أمنية تابعة لدول أخرى، بعضها من الدول الحليفة مثل ألمانيا وفرنسا.

لقد آثارت تلك المعلومات التي فضحت عمليات التنصت الأميركية زعماء العالم، الذين شعروا فجأة أنهم مكشوفون وعرايا أمام الاستخبارات الأميركية، بكل ما يعنيه هذا على صعيد سمعتهم الشخصية وخصوصيتهم والأمن القومي لبلادهم.

لذلك مارست بعض الدول "الصديقة" ضغوطاً على واشنطن، وبالفعل أعلن الرئيس السابق أوباما في يناير 2014، تعهده بـ"إيقاف عمليات التجسس على زعماء الدول الصديقة، وفرض قيود جديدة على برامج المراقبة، واحترام الحقوق المدنية".

واضطر على خلفية تفجير فضيحة جديدة عن تنصت "سي آي إيه" على ثلاثة رؤساء فرنسيين سابقين، إلى مهاتفة الرئيس هولاند، وتجديد التعهد له بـ"إنهاء ممارسات ربما تكون قد جرت في الماضي".

نحن نعرف الآن أن "سي أي إيه" لم تتوقف عن تلك الممارسات، وأنها ربما تكون قد توسعت فيها بشكل غير مسبوق، بحيث احتاجت "ويكيليكس" إلى أن تعبر عنها في أكثر من ثمانية آلاف وثيقة. ستُلقي تلك التطورات بأعباء كبيرة على السياسيين والقادة والدبلوماسيين؛ إذ ستحرمهم من القدرة على المرواغة والكذب والإفصاح عن مكنونات مشاعرهم والبوح بآرائهم الشخصية وانطباعاتهم، والأهم من ذلك أن مصطلح "سري للغاية" بات جزءاً من الماضي.

سيتوقع كل مسؤول سياسي أن يتم فضحه يوماً، خصوصاً أن هناك ما يعزز اليقين في أن "كل شيء تم تسجيله وتصنيفه وتخزينه... وسيمكن إذاعته في أي وقت".

من الصعب جداً على القادة أن يتعاملوا مع سلطة مناظرة لسلطتهم بندية أو اعتداد، ومن الصعب أيضاً أن يحافظوا على مصالح بلادهم الوطنية، إذا كانوا يعتقدون أنهم مخترقون، ومستباحون، ومكشوفون في حياتهم الشخصية، وفي أدق تفصيلات إدارتهم لشؤون الدولة.

إنه عصر يتوقف فيه القادة عن الحديث بصراحة، حتى في الغرف الضيقة مع مساعديهم وحلفائهم، وينكشف نظام المراسلات العمومية، ويفقد مصطلح "سري" معناه.

سيدرك القادة النبهاء أن تلك التطورات تفرض قيوداً جديدة وسياسات يجب أن تؤطر حديثهم، وحركتهم، ومكاتباتهم، وأنها أيضاً تعكس تفاوتاً تقنياً، لا يبدو أن بمقدورنا الحفاظ على مصالحنا الوطنية، أو كرامتنا، إلا بجبره.

وسيدرك المواطنون النبهاء، الذين يستخدمون "الإنترنت"، ووسائل الاتصال الأخرى، بشغف وانفتاح، أن كل ممارساتهم الاتصالية يمكن أن تكون لدى شخص أو كيان ما... وهو أمر لو تعلمون جلل.

* كاتب مصري