مَر ربع قرن من الزمن منذ انتهت سياسة التمييز العنصري، وثلاثة وعشرون عاما مرت منذ تولى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي السلطة في جنوب إفريقيا، ولكن كما ذَكَر الرئيس جاكوب زوما في خطاب حالة الأمة الذي ألقاه مؤخرا، فإن أصحاب البشرة البيضاء في البلاد ما زالوا هم من يفرضون سيطرتهم.قال زوما: "إن الأسر البيضاء تكسب خمسة أضعاف ما تكسبه الأسر السوداء على الأقل، و10% فقط من أكبر 100 شركة في سوق جوهانسبرغ للأوراق المالية مملوكة لمواطنين من ذوي البشرة السوداء في جنوب إفريقيا"، الواقع أن أصحاب البشرة البيضاء ما زالوا يمثلون 72% من مناصب الإدارة العليا، ولا يُظهِر مُعامِل جيني، المستخدم على نطاق واسع لقياس التفاوت، أي إشارة إلى الهبوط، بل يظل واحدا من أعلى معدلات التفاوت في العالَم.
تأتي هذه النتائج بعد 14 عاما من إطلاق برنامج العمل الإيجابي القوي المعروف باسم التمكين الاقتصادي للسود، الذي خلق كل أنواع الحوافز والقيود لتعزيز مشاركة السود في الملكية، والإدارة، والسيطرة، وتنمية المهارات، والمشتريات، وريادة الأعمال، وعلى الرغم من إلزام مالكي الأسهم من ذوي البشرة البيضاء ببيع بعض الأسهم للسود في صفقات الأسهم التي كانت مدعومة إلى حد كبير وممولة بأموال عامة.ولكن زوما يزعم أن النتائج كانت قاصرة عن تحقيق الهدف الذي وضعه في عام 1981 رئيس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي آنذاك أوليفر تامبو، الذي سعى إلى تحقيق التحرر الاقتصادي، من خلال "عودة ثروات البلاد إلى الشعب ككل". وينبغي لهذا الهدف أن يتحقق من خلال "التحول الاقتصادي الجذري"، وهذا يعني وفقا لزوما "إدخال تغييرات جوهرية على بنية ونظام ومؤسسات وأنماط الملكية والإدارة والسيطرة على الاقتصاد لمصلحة جميع مواطني جنوب إفريقيا، وخصوصا الفقراء، وغالبيتهم من الأفارقة والإناث". ويتعين على جنوب إفريقيا أن تواجه ما أسماه آخرون "الرأسمال الاحتكاري الأبيض".ويبدو أن زوما يسعى إلى إعادة توزيع الأصول بشكل جذري في الاتجاه الذي اقترحه يوليوس ماليما، زعيم المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية وأحد المعجبين بنهج أنصار تشافيز في فنزويلا، فهناك قام هوغو تشافيز وخليفته نيكولاس مادورو بتأميم النفط، والصلب، والأسمنت، والاتصالات، والبنوك، والأراضي الزراعية، وشركات الألبان، وسلاسل المتاجر الكبرى، هذا فضلا عن الاستثمار في المشاريع المشتركة بقيادة الدولة لإنتاج السيارات، والإلكترونيات، والأجهزة المنزلية، وعدد لا يحصى من المنتجات الأخرى. وقد انهار الناتج في كل من هذه الصناعات، وكانت العواقب كارثية في فنزويلا.في عالَم حيث يشكل التفاوت بين الناس مصدرا عظيما للقلق، وحيث بلغت الرغبة في التغيير الجذري أوجها، كيف تتحقق الاستفادة من هذه التجارب؟ لماذا فشلت كل من فنزويلا وجنوب إفريقيا في تحقيق ما سعى قادتهما إلى تحقيقه؟الواقع أن قدرا كبيرا من الفِكر الذي ألهم زوما، وتامبو، وتشافيز، ومادورو يرجع إلى ماركس، فمن منظوره، ومنظور مفكرين حاليين مثل رجل الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي، يتألف عالَم الاقتصاد من مادتين أساسيتين: رأس المال والعمل. إذ يسيطر أصحاب رأس المال على وسائل الإنتاج، التي تمنحهم السلطان على العمل، وينطوي التحرر، كما أسماه تامبو، على "إعادة ثروة البلاد"- ملكية رأس المال- إلى أصحابها الشرعيين، إما بشكل مباشر أو من خلال الدولة التي تمثلهم.بيد أن رأس المال، مثله في ذلك كمثل المستقبل، لم يعد كما كان عليه في السابق، فقد أصبح الآن سلعة رخيصة ومتوافرة، وإن كنت لا تملكه فيمكنك أن تستأجره.تشير البيانات إلى أن أكبر 40 شركة مدرجة في بورصة جوهانسبرغ للأوراق المالية "مملوكة" بصورة غالبة لمستثمرين مؤسسيين أجانب، وترجع "ملكية" 12.5% أخرى من السوق إلى شركة جنوب إفريقيا للاستثمار العام، التي تتولى إدارة صناديق تقاعد الموظفين الحكوميين. ومن هذا المنظور فإن امتلاك المستثمرين السود الأفراد نحو 10% من سوق البورصة، وفقا لزوما، يُعَد حقيقة مبهرة، نظرا لهيمنة المستثمرين المؤسسين لا الأفراد، ولكن الهوس بملكية "السود" للأسهم، بعيدا عن ضمان الثراء الفاحش لقِلة من الأثرياء من ذوي النفوذ، لا يساعد في تحقيق هدف "التحرر".المشكلة هي أن الإنتاج لا يتطلب رأس المال والعمل فقط، بل يتطلب أيضا المعرفة؛ عامل الإنتاج الذي تجاهله ماركس وأتباعه. المعرفة هي القدرة على أداء المهام، ومكان المعرفة في العقول فقط، وهي تأتي في قدر هائل من التنوع، يشمل الطهاة، ومدققي الحسابات، والسباكين، ومقومي العمود الفقري، ومصممي المواقع الإلكترونية.تنتقل المعرفة وتتراكم ببطء، وغالبا في بيئة العمل، من خلال عملية مطولة من التقليد والتكرار: التعلم من خلال الممارسة. والجانب الإيجابي في سياسة التمكين الاقتصادي للسود في جنوب إفريقيا هو أنها تلزم الشركات بتوظيف فريق أكثر تنوعا من المديرين والعمال، بهدف السماح للمجموعات التي كانت مستبعدة ذات يوم بالمشاركة في عملية تراكم المعرفة.ولكن المدير الذي يملك عشرين عاما من الخبرة لا يمكن إيجاده بين عشيه وضحاها، وأياً كان مدى جذرية التحول الذي ترغب في تحقيقه، فإن المعرفة لا يمكن الاستيلاء على ملكيتها أو تأميمها، ولا يمكن اقتلاعها مثل الأسنان من العقول التي تملكها الآن.ولكن المعرفة يمكن طردها، كما طَرَد تشافيز 300 ألف عام من الخبرة من صناعة النفط في عام 2003، كما يمكن تخويفها ودفعها إلى الفرار، كما حدث مع أكثر من 500 ألف مواطن من ذوي البشرة البيضاء في جنوب إفريقيا، ويمكن أيضا منعها من القدوم، من خلال سياسات الهجرة والعمل المتشددة كتلك المعمول بها في جنوب إفريقيا على سبيل المثال. عندما تُنبَذ المعرفة، ينهار الإنتاج، كما حدث في فنزويلا وزيمبابوي، ولكن المشكلة ليست في الشركات القائمة فحسب؛ فالشركات غير الموجودة لا تقل أهمية، لأنها لم تتأسس أو لم تتوسع قَط (وإذا حدث ذلك فإن جنوب إفريقيا ما كانت لتفتقر إلى تسعة ملايين وظيفة يبحث مواطنوها عنها اليوم).الآن، تجازف جنوب إفريقيا بالسير على خطى زيمبابوي، وفنزويلا، والجزائر، حيث ورثت حكومات ما بعد الاستقلال أو الحكومات الثورية مخزونا من المعرفة في عقول أشخاص ربما لم يحظوا برضا القادة الجدد، فكان من الواجب استخدام تلك العقول أو خسارتها، ولكن محاولة "التحول الجذري" كانت تعني ضمنا خسارتها، سواء من خلال الهجرة أو الإقصاء. وفي هذه العملية تسبب القادة في جعل المعرفة أكثر نُدرة، فدفعوا سعرها إلى الارتفاع ودفعوا المجتمع إلى المزيد من الفقر والتفاوت بين الناس، وانتهت محاولة "إعادة الثروة إلى الناس" إلى جعلهم أكثر بؤسا وفقرا.ويكمن البديل في التغلب على انقسامات الماضي من خلال صياغة تعريف أكثر شمولا للضمير "نحن"، تعريف يُقِر بالمساهمة المحتملة للمعرفة المستقرة في العقول حيثما وجِدَت، لضمان تمكينها من التدفق إلى شريحة أعرض من المجتمع بمرور الوقت. وفي نهاية المطاف يُصبِح السؤال المطروح هو: ما إذا كانت جنوب إفريقيا، مثلها كمثل زيمبابوي" ترى نفسها كدولة إفريقية سوداء تعيبها قِلة من الشوائب المؤسفة، أو "كأمة قوس قزح" التي روج لها نيلسون مانديلا، دولة أشد قوة لأنها تبني على المعرفة وتحتفي بالتنوع.* ريكاردو هوسمان* وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا، وكبير خبراء الاقتصاد لدى البنك الأميركي للتنمية سابقا، وأستاذ الاقتصاد في كلية كينيدي في جامعة هارفارد.«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
رأسمال المعرفة
21-03-2017