في مقدّمة «زهرة الوسن» بوح وجداني شاعري، لا يشبه لغة المقدّمات. فالشاعر جعفر ابراهيم يتسلّل إلى ذاته سرّاً، ويخرج منها: «على نعش نهدة طويلة»، وحين يقف خارجها، يمدّ يده إلى سلال الكلام في جوارح الذات طمعاً بما تجود به الحروف من ماء على جمر كثير لا ينحصر بالخَفَر: «علّ برد الحروف يطفئ جمرة خفري». وابراهيم يكتب في فيء خيام الألم، وكثيراً ما يكون رأسه على وسادة لا تترك فيها المسامير متّسعاً لحلم بين جناحَي إغفاءة: «أرَقي يسند رأسي على وسادة من مسامير صَلبي». وإذا كان لا بدّ من رغيف، فالشاعر يجده على كفّ المحبرة طازجاً، هو الذي يرى في السنبلة امرأة تتنازل عن كحلها ليكون ملح رغيف: «أجدّل أهداب سنبلتي، عروس ملح الرغيف».ومن المقدّمة، يبدو ابراهيم آتياً من لوحة ريفيّة، طالعاً من حكايا الماء والتراب والعصافير مارداً من حنين وألم، يغمض العينين على نور ينزفه سراج طاعنٍ في العمر، يقول نوره دماً، ويعدّ يمام جدّته على أصابع صليبه: «أسبل عينيّ على قبسٍ من سراج عتيق... زيته من نشيج... كانت جدّتي ترسل يمامها زاجلاً... ليحطّ على خشب صليبي». ويلحظ الشاعر أنّه يخسر بعضاً منه عند كلّ مفترق، إلاّ أنّه لا يرثي هذا البعض، ويحاول ملء وديانه بضباب الحنين لائذاً بالابتسامة التي قد تكون دمعة ترتسم على الشفتين بلا منّة الماء: «لن أحبس دمعاً على فراق بعضي... لا... لأنّي، وبكل جوارحي أودّ أن تغمرني البسمات ببسمة»، وحين يبحث كلّ منّا عن مرآته، يعتصم ابراهيم بنصّه، فتبقى كلمته المرآة التي تقدّمه للوجود بأمانة وتحتفظ بوجهه نقياً إلى الأبد: «إقرأوني تجدوني».
ظلال أوجاع الآخرين
لا يتأخّر قارئ «زهرة الوسن» في أن يعرف أنّ جعفر ابراهيم متبنّي جراح أمّة، وما وجعه الشخصي سوى ظلال لأوجاع الآخرين. فهو الباحث عن خلاص العيون من رمل الوهم: «سرّ السراب/ عطش الماء للمرايا/ رمل يحتضن الوهم عبابا»، وهو الداعي إلى الاستحمام بما تقوله الشمس من لهاث ذهبي الانتماء إلى الحقيقة، ومن استحمّ بلهاث شمس فتح النخيل عيناً من عيون ظلاله واصطاد به خطوات العابرين: «استحمّوا بلهاث الشمس/ علّ النخيل يرمق خطاكم بظلّ».وأمام سجلاّت القيد العربيّة يكتشف الشاعر أنّه يحمل خطايا الأسماء المتراكمة من صفحات التاريخ، الطالعة رائحتها الموجعة من سلالة الصحراء: «حمّال خطايا القيد.../ من سلالة صحراء»، ويعرف أنّ أمّه كتبته بلا معرفة لأنّ يدها ممدودة أبداً إلى أحاجي الغيب فكانت الفجيعة حين تنتزع أمّ مسامير القيامة من أغنية ابنها المصلوب على قدس تهرب من الجغرافية وتأوي إلى البال: «وهل أمّي حلاّجة يباب/ كتبتْني أمِّياً برسم ما قرأتْ من أحاجي الغيب.../ انتزعَتْ من أغنيتي مسامير قيامتي/ والقدس في البال ؟!»...وفي قصيدة «أسمّيها» يحاول الشاعر طيفاً لامرأة في قصيدة، امرأة تفرِّق الغيوم وتنسج الصّحو بصنّارة شتاء لتسمّى الرغبة بجدارة: «تشبه الصّحو في بال الشتاء.../ أسمّيها الرّغبة؟!»، امرأة تجترح ماء الصمت يقطر من أجنّة لتصير النشوة اسماً ثانياً لها: «نهراً من الصمت/ في أجنّة الحلك/ من بعد نوم المساء/ أسمّيها النشوة»، ترقى إلى أن تكون التّوبة على سحابة صلاة والروح مقيمة خارج الجسد فتصادر الزمن لتكونه: «لا... التوبة... قبل قيام الليل/ من بعد صلاة العشاء/ وتشبه الروح عارية من قميصها الجسد/ أسمّيها الأزمنة؟!.../ لا بل هي الأبد»، إلاّ أنّ هذه المرأة المتعدّدة في وحدتها هي في عمق حقيقتها رحيق من حدائق الطفولة تبقي الشاعر على امتداد الزّمن أسير الوالد: «وستبقى في ذاكرتي/ عقد طفولة/ وسأبقى في محاريب عينيها ولداً... ولد».واحة الغريب
وفي قصيدة «واحة الغريب» رسم تقريبي لوجه الشاعر ابراهيم. إنّه المستوطن خصوبة غربة، المسوّر بالأغاني، المعتمر تاج البعد: «واحة غربتي/ أغانيّ.../ غريب.../ زهّر الحنين في مساحات البعيد...»، وفي عينيه ملح يتسلّق ذهب السنابل: «سنبلٌ في ملح مقلتيّ»... أمّا باله فقد هجرته الأوتار لأنّ كثافة البعد تجترح الأغاني: «ما من قيثارة في البال/ أنا النّأي»، وحين يغيب نغم الفرح، يتجسّد الشوك أغنية مثلما تتحوّل الدهشة رصيفاً ذا قدمين حافيتين: «دهشتي رصيف حافي الخطى/ والشّوك موّال»... وابراهيم يبني في المجاز وطناً، ويعود إلى ما بين كتفيه حيث وشمٌ بعطر التراب، وحيث بلد على كتف أمنية لها من المستحيل شوارع تنهب خطوها: «إلى أين المآل ووطني وشم بين كتفيّ / ... كاد لي بلدي / أمنية تائهة في أزقّة المحال».وفي حدائق لها من الحصى زهر يسمع ابراهيم أنيناً على سواد تقوله طقوس مبهمة، ويمدّ عنقه إلى ما وراء الرؤية حيث المعاني تتدثّر بالضباب: «أنين يئنّ عتمة طقوس/ أعراف ما وراء الرؤية/ قيد بصيرة المعنى»... وتحت وطأة هذا الغموض الثقيل يُسجّى الفرح على سرير حزن، وتتجمّع الحواس منتهية في وشم على خاصرة: «مسّ الحواسّ وشم في خاصرتي»، وكيف لا يلد الحزن الشاعر ألف مرّة كلّ يوم، إذا كانت أمّه: «عرّافة حقول البكاء»، وخطّته «بمحراثها وجهاً لبسمة ساخرة»، ونطقته نبيّاً متفرِّغاً ليرعى الحنين قطعاناً في الغيب المترامي مراعي بلا نهاية: «تعثّر قلبي/ لثغت باسم من أنجبتني نبيّاً/ لرعي قطعان الحنين/ في مراعي غيبها»...في «زهرة الوسن» رحيق جملة يكتبها جعفر ابراهيم مهدياً إليها جمالها على جناح ضباب كثيف ترتاح له الحداثة لأنّه يجعل الكلمة كثيرة الظلال... والالتباس.