«شبرا»... كتاب البكاء على أطلال الحنين
• مؤلفه يستعرض قصة الحي المتوسطي الذي هزمه «الترييف»
بينما يسعى المثقف المصري إلى لملمة ما تبقى من أطلال الحداثة في ظلّ أزمة اجتماعية واقتصادية وثقافية تعصف بتراث التنوير المتراكم على مدار قرنين من الزمان، جاءت كتب لتؤكد الحنين العام في الساحة الثقافية إلى مثل هذه اللحظات، وأهمية الاحتفاظ بها قبل أن تنقضي آثارها وتُمحى معالمها.
في هذا الإطار يندرج كتاب «شبرا- إسكندرية صغيرة في القاهرة»، لأستاذ التاريخ في جامعة القاهرة الدكتور محمد عفيفي.
في هذا الإطار يندرج كتاب «شبرا- إسكندرية صغيرة في القاهرة»، لأستاذ التاريخ في جامعة القاهرة الدكتور محمد عفيفي.
صدر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» كتاب «شبرا- إسكندرية صغيرة في القاهرة» في محاولة لتكثيف لحظات الألق التي عرفتها القاهرة كمدينة كوزموبوليتانية، قبل أن تسقط أمام زحف «الترييف» وتكتسب وجهاً أحاديّ التوجه.لماذا شبرا؟ السؤال الافتتاحي في الكتاب يجيب عنه المؤلف د. محمد عفيفي قائلاً إن أبناء المهاجرين من البحر المتوسط والدلتا والصعيد صنعوا عالمًا جديدًا، عالمًا «كوزموبوليتانياً»، متعدد الأجناس والأعراق، متفتح الثقافة، والتعليم سلاح المستقبل فيه، عالمًا أقرب إلى حال مدينة الإسكندرية في عصرها الزاهر، وقبل الغزو السلفي الذي غزا شبرا في الوقت نفسه تقريبًا». هنا يضعنا المؤلف أمام الهدف وراء تأليف الكتاب، وهو البحث عن عالم غادرنا، كان أكثر إشراقاً من حاضر كئيب، كذلك يحاول تقديم نموذج حضاري توارى خلف ردة حضرية، هي محاولة لمقاومة واقع يرفضه المثقف المصري لكن لا يستطيع تغييره، لذلك يستدعي التاريخ للحفاظ على جذوة التنوير، التي يشعر عفيفي ومعه كثير من المفكرين المصريين بأنها تكاد تنطفئ.يتراوح كتاب «شبرا» بين فن التأريخ للمكان والمدن والأحياء وعلاقتها بالبشر، وبين فن السيرة الذاتية عندما يحضر بعض مشاهد من حياة المؤلف ابن شبرا، وإن على استحياء. في الفصل الأول للكتاب «النمو العمراني والتطور الإداري»، تبدو شخصية المؤرخ حاضرة مع استعراض تاريخ شبرا منذ ظهورها كجزيرة من الطمي تجمع حول سفينة «الفيل» الغارقة، حتى تحوّلت إلى أحد أحياء القاهرة الشهيرة، منذ أن قرر محمد علي باشا بناء قصره فيها، وشقّ شارع شبرا الذي ربط الحي الوليد بقلب المدينة العجوز، مستعرضاً أهم معالم الحي التي تسرَّبت إلى عالم الأدب كرواية «بنت من شبرا» لفتحي غانم، والسينما عبر مجموعة من الأفلام، أشهرها «الفتوة» لصلاح أبو سيف.
لوحة شبرا
تحوّلت السيرة الذاتية لعفيفي إلى أحد مكونات لوحة حي شبرا المكونة من ملايين الحيوات، إذ تتسرّب مشاهد من حياته بين صفحات تاريخ شبرا، فهو ابن الحي أباً عن جد، يلخص جذوره بشبرا قائلاً: «هذه الفترة (الهجرة الريفية إلى القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين) ستشهد هجرة جدي من المنوفية إلى شبرا، وستشهد أيضاً زواجه من جدتي... وينتقل أخوات جدتي إلى شبرا، ليصبح أحدهم هو جدي لأمي، حيث سيتزوج أبي من ابنة خاله، لأولد أنا لأرى أن العائلة كافة تقيم في شبرا».ولم يجد مؤلف الكتاب أفضل من المطربة الفرنسية ذات الأصول المصرية «داليدا» للحديث عن مجتمع شبرا الذي ضمّ في عصره الذهبي خليطاً من المصريين واليونانيين والإيطاليين والأرمن، فشكّل مدينة متوسطية في قلب العاصمة المصرية، أو إسكندرية صغيرة في القاهرة، حياً للمهاجرين من شرق البحر المتوسط وللمهاجرين المصريين من الريف. كانت شبرا ملتقى المهاجرين، وبين جنباتها التقت الأضداد لصناعة مجتمع كوزموبوليتاني يتسع للجميع ويحترم الاختلاف في رحابة وينشد التنوع. يؤكد عفيفي أن التنوع الذي عاشته شبرا نقلته إلى أبنائها، فخرجوا في دروب الحياة يبحثون عن الإبداع والتفوق، كل في طريق. ويستعرض الكتاب مشاهير مدارس شبرا، فنجد السياسي كرئيس مجلس النواب ويصا واصف، والناقد كرشاد رشدي، وفي الطب نجيب محفوظ، طبيب النساء الشهير، وأحد أشهر أطباء مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والذي يقال إن أديب نوبل تسمى باسمه تيمناً، ومن المؤرخين عزيز سوريال عطية، صاحب الموسوعة القبطية، والأديب يوسف السباعي الذي نشر أول قصة له في مجلة مدرسة شبرا الثانوية العام 1934.وثائق وشهادات
يستعرض عفيفي، الذي اعتمد على وثائق وشهادات حية وأجزاء من السيرة الذاتية، كيف نشأت شبرا كنقطة تجمع لتيارات وجنسيات مختلفة، لتنمو سريعاً حتى تعرف لحظتها الذهبية في النصف الأول من القرن العشرين، ثم كيف فقدت مع الوقت طابعها الحيوي ومكونات تنوعها تباعاً، فتخلت أولاً عن طابعها المتمثّل في جزء منه بحيّ قصور الأسرة العلوية المالكة والباشوات وحي لأبناء الطبقة المتوسطة من المصريين والأجانب، ثم سقطت أمام سطوة الريف الذي ضرب المدينة المصرية في الثلث الأخير من القرن العشرين، ليُترجم ذلك على الأرض بإغلاق معظم دور السينما في الحي أبوابه تحت وطأة الهجمة السلفية.يعبّر عفيفي عن هذه التغيرات في لغة حزينة قائلاً: «شبرا لم تعد حي البحر المتوسط في القاهرة، ولم تعد حتى حي الثقافة والفنون»، «وحلّ القبح والعشوائية محل الجمال والرومانسية»، «ومع هذه التغيرات تغير البشر، ولم تعد شبرا إسكندرية صغيرة في القاهرة... سرعان ما أدركت أن شبرا لم تعد شبرا التي أعرفها».بكائية جميلة
يبدو كتاب «شبرا- إسكندرية صغيرة في القاهرة»، بكائية جميلة على أطلال النوستالجيا، مرثية تليق بالحداثة والتنوير الآفل مع هزيمة المدينة أمام الريف، حيث وضع عفيفي يده على الجرح الغائر في قلب المدينة، «الترييف» وما جره من قيم وعادات وأفكار، يأتي الكتاب محاولة للاحتفاظ بلحظة التعايش والمحبة والانفتاح على الآخر، في لحظة تعاني فيها مصر غياب ذلك كله.