ستسقط عاصمته الموصل، إلا أن أبا بكر البغدادي، أبرز الرجال المطلوبين حول العالم، هرب منها منذ زمن ولا أحد يعلم إلى أين، ولا حتى ابنته.كان يوم جمعة عادياً لا يختلف عما ألفه أهل الموصل بالعراق منذ زمن: الحرارة خانقة، وجلبة الأولاد تملأ الطرقات، والنساء متوجهات لشراء حاجيات الأسبوع. في جامع النوري الكبير، كان المؤمنون يسارعون إلى المشاركة في خطبة الجمعة. لكن الإمام اختفى بشكل غامض وما عاد أحد يراه. فجأة، توقف موكب أمام المسجد ونزل منه مجاهدون مدججون بالسلاح. تحلقوا جميعهم حول رجل مكتسٍ بالأسود خرج من إحدى السيارات وفي أعقابه مصورون. داخل الجامع، كان القلق ينتشر بين المشاركين في الصلاة مع تقدّم هذا الوفد الغريب نحو المنبر وكرسي الإمام. شكّل المقاتلون حاجزاً بين الناس وزعيمهم الذي تكدّست عند قدميه بنادق الكلاشينكوف والإم -16. وهكذا دخلت الأسلحة دار العبادة. لم يتجرأ أحد هنا على ذلك. راح المجاهدون بمظهرهم المخيف يصيحون الأوامر في وجه المصلين المضطربين: «محظور عليكم الخروج قبل انتهاء الصلاة... وممنوع التقاط الصور!». المروجون للدولة الإسلامية وحدهم استطاعوا تخليد لحظة تنصيب الخليفة نفسه في 4 يوليو عام 2014. بدأ ابراهيم البدري الملقب بأبي دعاء وأبي بكر البغدادي خطبته. وفي صمت يشبه صمت القبر، أعلن الرجل، الذي لا يعرفه أحد في الموصل، نفسه أمير المؤمنين وزعيم الدولة الإسلامية العظمى التي تضمّ أراضي من سورية والعراق، ويبلغ عدد سكانها سبعة ملايين نسمة.
تخبر رندة، صحافية من الموصل شارك زوجها في هذا المشهد المخيف: «صعد ببطء إلى الكرسي ويده اليمنى مشدودة إلى جسمه. أدرك الجميع أنه كان يخفي مسدساً تحت إبطه». عمدت الشابة، التي صارت اليوم لاجئة في بغداد، إلى تحليل من دون خوف أو تردد الفيديو الذي انتشر حول العالم: «طوال الخطبة، كانت عيناه تراقبان الصالة بحثاً عن أصغر إشارة إلى أي خطر. شكّل هذا المشهد انقلاباً. خشي أن يعلن منافسه الأبرز، جبهة النصرة المتحالفة مع تنظيم القاعدة، الخلافة قبله. لذلك عمل بسرعة كي يقطع عليه الطريق». وهكذا عادت الخلافة الإسلامية إلى أراضٍ يحكمها خليفة بعد تسعين سنة من إلغاء الأتراك لها. توضح رندة: «يكتسب الخليفة، إلى جانب الأراضي، الثروات، وحق فرض الضرائب على السكان، وشرعية دولية». وهكذا زُرعت بذور الإرهاب.ولكن ما الذي يميز الوحوش الذين يبطشون بالناس؟ في حالة ابراهيم البدري، ما من أمر أشار إلى أنه سيتربع ذات يوم على عرش الإرهاب العالمي متفوقاً بأشواط على كل مَن سبقوه. ولد عام 1971 في سامراء، التي تبعد نحو ساعة بالسيارة عن بغداد، لعائلة فقيرة وأمية. دُعي والداه بـ«المؤمنين» نظراً إلى التزامهما الصارم بالإسلام. سكنت عائلته حي البدري، وكان ولاء أهله مقسوماً بين تعاطفهم مع الإخوان المسلمين وبين تأييدهم الرئيس صدام حسين الذي تسلّم السلطة حين كان ابراهيم في الثامنة من عمره. كان صبياً خجولاً، وكتوماً، وشفافاً. وراء منزل العائلة، كان أحد الحقول يُستخدم كملعب لكرة القدم. وبعد سنوات عدة، عمل البغدادي على تطويره وإصلاحه. لطالما كانت كرة القدم مصدر شغفه. يتذكر أحمد، أحد معارف ابراهيم القدماء: «كان يتجوّل في هذا الحقل بدراجته غالباً. كانت سلتها تحمل دوماً كرة ومنفخاً صغيراً بغية نفخ الإطارين اللذين استُهلكا حتى الحديد». كذلك شكّل ابراهيم مع أصدقائه فريقاً دعاه «الملالي». في وقت لاحق، بدأ يتلو الصلوات في المسجد. يوضح إمام المسجد: «كان صوته جميلاً وحفظ القرآن جيداً». تركت عائلته منزلها عام 2014 خوفاً من التعرض لعمليات انتقام. فشغله لفترة من الوقت لاجئون هاربون من جنون الجهاد. هذه هي مفارقات الحرب.أثارت زيارتنا فضول أحد الجيران، فاقترب منا وقال: «جلب العار على العراقيين والمسلمين حول العالم. ولكن لا يمكن لأحد التعبير عن ذلك هنا لأن الحي بأكمله ملك لآل البدري، وللجدران آذان».
إلى بغداد
انتقل ابراهيم من سامراء إلى بغداد مع عائلته عندما بدأ دراسته الثانوية. سكنت العائلة حي الطوبجي الشعبي. يخبر عمر، الذي ذهب إلى مدرسة واحدة مع ابراهيم وإخوته الثلاثة: «أراد أن يصبح محامياً. كان ولداً لطيفاً. برع في الرياضيات، إلا أن مستواه كان متوسطاً في المواد الأخرى». وبعدما حالت علاماته المتدنية في الشهادة الثانوية دون دخوله كلية الحقوق، فكّر في دخول الجيش. لكنه رُفض لأنه يعاني قصر النظر. وهكذا لم تقبل به أية كلية غير كلية الشريعة الإسلامية. تحوّل مسجد الحاج زيدان إلى منزل ثانٍ للطالب الشاب. رغم ذلك، لم يتخلَّ عن حبه لكرة القدم، حتى صار أبناء الحي يلقبونه «مرادونا». يتابع عمر: «كان ماهراً جداً. كنت ألعب مع الفريق المنافس وكنت أصلي دوماً أن يكسر ساقه كي نتمكن من الفوز. واعتاد ابراهيم أن يثير جلبة كبيرة كلما أخفق في تسديد هدف. لكنه تراجع تدريجياً. ازداد انطواء على ذاته، وأصبح سريع الغضب، وصار يفرض نظرته الخاصة إلى الإسلام». كانت محاولات الهداية هذه تزعج عمر. ما زال يذكر نوبات العنف الأولى: «أُقيم في الحي عرس ذات يوم، فدخله وتجادل مع المدعوين بحجة أن الاختلاط بين الجنسين محظور في الإسلام. أثار فضيحة فيما كان الناس يرقصون، ويحتفلون، ويفرحون».في عام 2003، اجتاحت الولايات المتحدة العراق، فتحوّل ابراهيم إلى مقاوِم. شكّل خلية صغيرة من المجاهدين نشطت في سامراء وبغداد: جيش أهل السنة والجماعة. في ذلك الوقت، برهن تنظيم القاعدة في العراق بقيادة الزعيم الدموي أبي مصعب الزرقاوي، والجيش الإسلامي في العراق عن قوتهما: عمليات خطف وتعذيب وإعدام نُفذت بحق صحافيين غربيين وجنود أميركيين. يذكر الشيخ أحمد الدبش، مؤسس الجيش الإسلامي في العراق الذي يعيش اليوم في المنفى في الأردن، أن ابراهيم لم يكن سوى شخصية ثانوية. يقول: «لم يسمع به أحد. ذات يوم، تعرّض مسجدي في بغداد لاعتداء وقع فيه قتلى. فأتى كل الزعماء الكبار لتقديم واجب العزاء. كانوا يصِلون ضمن مواكب محاطين بحراس. أما البغدادي، فقدِم في سيارة أجرة برفقة أحد زملائه. شدّ على يدي، إلا أنه اضطر إلى تذكيري باسمه كي أعرف مَن يكون». ولكن في حرب العراق الثانية هذه انقلب مصير البغدادي. في فبراير عام 2004، اعتُقل مصادفة في الفلوجة، حين كان يزور صديقاً شكّل هدفاً للقوات الأميركية، فأُرسل كمعتقل مدني لا كعضو في مجموعة مسلحة إلى معسكر اعتقال بوكا، وسط الصحراء جنوب البلاد. في ذلك المعسكر، كان الأميركيون، الذين عملوا على نطاق واسع، يحتجزون أكثر من 300 ألف شخص، من بينهم مجاهدون، وجنود من جيش صدام أُسروا في المعارك، ومواطنون عاديون. احتجزوا كل هؤلاء معاً بأعداد كبيرة من دون أي تمييز.معسكر بوكا الأميركي
بين المعتقلين، كان رجل يرافق الغدادي. انضم هذا المجاهد فور إطلاق سراحه إلى صفوف الدولة الإسلامية، وهو صاحب الفتوى التي أمرت بتفجير مرقد النبي يونس في الموصل. وفي عام 2014، عُيّن أيضاً «الأمير الشرعي» لداعش في العراق قبل اعتقاله مجدداً. في بوكا عام 2004، كان يشارك في خطب البغدادي في مسجد المعسكر ويلعب معه كرة القدم تحت أنظار الحراس الأميركيين المذهولة. وعلى غرار الشهود السابقين، يصف هو أيضاً الخليفة المستقبلي بشخص عادي لا يملك ما يميزه: «كان دوماً وحيداً ومنطوياً على نفسه، وصعب فهمه. كان يفتقر إلى الحضور القوي وأخفق في حشد المؤمنين حوله. لم أتخيل يوماً أنه سيتبدل إلى هذا الحد. هذا تحوّل جذري». حدث هذا التحول في تلك المرحلة بالذات. شكّل معسكر بوكا الأميركي بالنسبة إلى البغدادي وعدد ممن انضموا إليه لاحقاً «مدرسة الجهاد» التي «خرّجت» كثيراً من مقاتلي الدولة الإسلامية المستقبليين. في هذا المعسكر، كان البعثيون التواقون إلى الانتقام يخالطون بحرية أسوأ الإرهابيين في المنطقة. وتحت أنظار حراسهم، عقد هؤلاء الرجال الذين عارضهم الجميع، العسكريون من جهة والمتشددون دينياً من جهة أخرى، اتحاداً مقدساً. قدّم البعض معارفه الدينية، في حين وعد البعض الآخر بتسخير معارفه العسكرية، والأمنية، والحربية لخدمة الديكتاتورية المستقبلية. وأدى هؤلاء دوراً بالغ الأهمية حول البغداداي وفي ولادة داعش عام 2013.بعيد خروجه من السجن في شهر نوفمبر عام 2004، أعلن ابراهيم البدري ولاءه لتنظيم القاعدة، وبدأ بارتقاء سلم عالم الجهاد. وبعد سنتين، عندما قُتل الزرقاوي في قصف أميركي، تقرّب من خلفه حامد الزاوي، لواء في الجيش خلال عهد صدام أسس في تلك السنة عينها الدولة الإسلامية في العراق. ظل هذا التنظيم منضوياً تحت سلطة أسامة بن لادن.زواج ثانٍ
في تلك الفترة، قرّر البغدادي الارتباط ثانية. وكان يبحث عن أرملة، علماً بأن هذا الخيار يرمز إلى التضحية والتقوى وشجّع عليه الرسول. فعُرض عليه الزواج بأرملة أحد حراس صدام الشخصيين قُتل في مواجهة مع الأميركيين.سجى الدليمي جميلة، وكانت أنهت لتوها مرحلة المراهقة. رُزقت بتوأم من زواجها السابق. وفي عام 2007، صارت زوجة الخليفة المستقبلي. ولكن في غضون بضعة أسابيع، بعدما أنهكتها غيرة الزوجة الأولى، تركت زوجها ولم تكن تعلم أنها حامل. لجأت اليوم إلى لبنان حيث تعيش مع ابنتها هاجر، وتخشى باستمرار أن يخطف رجال الخليفة صغيرتها. هاجر تجهل على ما يبدو ثقل إرثها العائلي، لكن الشبه بينها وبين البغدادي جلي. كذلك أثبتت فحوص الحمض النووي نسبها إليه. حُرمت هذه الفتاة من المدرسة لأن والدتها تود حصر تنقلاتها في المكان الذي تختبئ فيه خوفاً من «داعش» ومن خصومه أيضاً.تدين سجى اليوم الإرهاب. إلا أن السلطات اللبنانية سجنتها مدة سنة لاشتباهها بأنها ما زالت على علاقة بالبغدادي. تؤكد أنها لم تلحظ لدى زوجها أي نشاط مشبوه، بل ترسم عنه صورة مذهلة: «كل ما عرفته عنه أنه كان مدرّساً متخصصاً في الشريعة. كان يعود كل مساء إلى المنزل، ويتناول الطعام وحده بصمت وكان يقرأ كثيراً». تقرّ سجى بأنه ما كان يحب أن تطرح عليه الأسئلة وأنه كان يختفي أياماً متتالية عدة «في زيارة لأقاربه». في نهايات الأسابيع، كان يخصص الوقت لإطعام قطة المنزل والاعتناء خصوصاً بأولاد هذه العائلة التي أعيد بناؤها. تخبر: «حقق نجاحاً أكبر مني في تربية الأولاد. ومن الطبيعي أن يبرع في التعامل معهم بما أنه مدرّس».«داعش»
في أبريل 2013، أعلن البغدادي تغيير اسم تنظيم الدولة الإسلامي في العراق إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). شكّلت هذه الخطوة محاولة علانية لضم الفرع السوري من تنظيم القاعدة، الذي رفض هذا العرض وخاض حرباً ضروساً ضد مقاتلي البغدادي. لكن الصبي الفقير من سامراء تحوّل إلى الرجل الأقوى في العالم رغم اختبائه... وهنا تكمن قوته: نشر الرعب وقاد معه مئات آلاف الأعوان إلى أعمال همجية من دون أن يظهر. يدعوه مقاتلو داعش «الشبح»، حتى إن بعض الأمراء لم يقابلوه يوماً.قلب التنظيم
خارج دوره كأب لعائلة هادئة، كان أبو بكر البغدادي يواصل بروزه في قلب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق. انتقل إلى سورية حيث بدأ يعدّ العدة لديكتاتوريته، إلا أنه ظلّ في الوقت عينه يشرف على أعمال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق: من تمركز المقاتلين والمعدات إلى نقل المجاهدين القادمين من أقصاع العالم للانضمام إلى التمرد المناهض للأميركيين في العراق. وكان عدد كبير منهم مجاهدين عبروا إلى العراق من سورية بموافقة النظام. وهكذا تحوّل البغدادي إلى الرجل الأكثر قرباً من زعيم الدولة الإسلامية في العراق الذي مات عام 2010. وبموافقة أسامة بن لادن، تولى قيادة التنظيم، هو الذي كان طالباً عادياً يفتقر إلى مهارة الخطابة. يؤكد هشام الهاشمي، خبير عراقي متخصص في المجموعات المجاهدة التقى الخليفة المستقبلي نحو أواخر تسعينيات القرن الماضي، أن عاملين برّرا هذا الخيار: العلاقات التي نجح هذا الرجل في نسجها داخل التنظيم الإرهابي وادعاؤه التحدر من النبي. سارع قائد المؤمنين الجديد إلى شن سلسلة من الاعتداءات العنيفة لم يسبق لها مثيل. تُعرف تلك الفترة بـ»الأيام الدامية» في بغداد. لكن فرع تنظيم القاعدة في العراق الذي ورثه كان يحتضر. فعثر البغدادي في الأزمة السورية، التي تأججت بعد سنة، فرصة ليبث فيه حياة جديدة. نتيجة لذلك، تحوّل شمال شرق سورية إلى منطقة «جهادستان»، التي تدفق إليها الرجال عبر الحدود العراقية والتركية غير المضبوطة ومن داخل سورية عقب تحرير مئات المجاهدين من سجن صيدنايا شمال دمشق. وهكذا حصل الخليفة العتيد على مختبر ما كان يحلم به.حياة جرذ
عقب ظهوره المنظّم بذكاء في 4 يوليو 2014 في جامع النوري في الموصل، عاود البغدادي الاختفاء حتى معركة الموصل الكبرى. في رسالته الأخيرة في نوفمبر 2016، دعا رجاله إلى القتال حتى الموت. ولكن يبدو أنه قرر عدم مرافقتهم. يتمسك خليفة الإرهاب بالحياة، مع أن موته لن يسم نهاية ابتكاره البشع: بات داعش اليوم أشبه بالعدار، وحش له رؤوس كثيرة، إلا أن رأسه الأوسط وحده لا يموت. صحيح أن البغدادي افتقر إلى قوة شخصيةِ القائد والمعلّم، إلا أنه نجح في زرع التعطش إلى الدماء في رجاله. في الموصل، يؤكد اللواء الركن فاضل برواري أن البغدادي انتقل إلى منطقة البعاج قرب الحدود السورية. يضيف: «يعيش تحت الأرض مع أشخاص يثق بهم ولا يستخدم أية وسيلة من وسائل التواصل الحديثة». ويستطيع أن يعيد بناء خلافة لناحية دير الزور في سورية. نحو نهاية عام 2013، نجا العدو الأول هذا من عدالة غارة نفذتها خلية من الصقور، وهي وحدة استطلاع عراقية. في منزل معزول شمال بغداد، عثروا على حزام البغدادي الناسف، وأسلحته، وكتبه، ومراسلاته، وأوراقه الثبوتية... أدركوا يقيناً أن الزعيم الإرهابي كان يقيم هنا تحت الأرض، على غرار صدام حسين قبل 10 سنوات، في مخبأ تدخله من فتحة مغلقة على سطح الأرض. وهكذا باتت حياته حياة جرذ.