ما قل ودل: الهم الأكبر هو التدخل في سير العدالة
تعديل قوانين الهيئات القضائية في مصرطالعتنا وكالات الأنباء وقنوات التواصل الاجتماعي، في وقت متأخر مساء يوم الاثنين 29 مارس، بإقرار مجلس النواب المصري أربعة قوانين بتعديل قوانين الهيئات القضائية الأربع، السلطة القضائية ومجلس الدولة وهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية، وهو تعديل يمنح رئيس الجمهورية سلطة تقديرية في اختيار رؤساء هذه الهيئات من بين أقدم سبعة مستشارين في كل جهة، إذا لم يتم إبلاغه قبل خلو المنصب بثلاثة مرشحين تختارهم الجمعية العمومية لكل هيئة من بين هؤلاء السبعة، أو عدد أقل من ثلاثة. وبذلك أعطى التعديل سالف الذكر لرئيس الجمهورية سلطة تقديرية لم تكن له من قبل في اختيار رؤساء الهيئات القضائية، حيث كانت سلطته مقيدة بالمرشح الذي توافق عليه الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة أو المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الخاص بكل من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية، والذي يقع اختيار هذه الهيئات دائما على أقدم المستشارين في درجات السلم القضائي والذين ينالون في الوقت ذاته ثقتها، تقديرا لمشوارهم الطويل في خدمة العدالة وإرساء مبدأ سيادة القانون.
سلطة مطلقة في حالة الوفاةولم تواجه التعديلات سالفة الذكر حالة الوفاة بحكم خاص، ليس بسبب أنها حالة نادرة، بل هي واردة تماما في هذه السن المتقدمة، بل ليصبح من سلطة رئيس الجمهورية تعيين رئيس الهيئة حتى السابع من المستشارين في السلم الوظيفي، دون ترشيح من هذه الجهات في حالة الوفاة.ولا يخفى على أحد أن اختيار رئيس الجمهورية لرئيس أي هيئة قضائية، سيتم وفقا للتقارير الأمنية لا بسب معيار الكفاءة، وهو ما استهدفه التعديل التشريعي في أن يوقع المستشارين السبعة تحت تأثير رهبة الأجهزة الأمنية أو رغبة في إرضائها، لسنوات تسبق الاختيار لهذا المنصب.استنفار الأمة كلها وقد جرى استنفار قضائي وحقوقي، يعارض إلغاء مبدأ الأقدمية في تولي هذه المناصب القضائية الرفيعة، ويعارض انتهاك أحكام الدستور بالعدوان على استقلال كل هيئة بشؤونها، وعدم التزام مجلس النواب برأي الهيئات القضائية التي رفضت هذا التعديل. وهي نظرة قاصرة، فاستقلال القضاء لا يجوز النظر إليه على استقلال كل هيئة قضائية بإدارة شؤونها في التعيين أو الترقية، فذلك أمر يصدق على الهيئات العامة التي كفل الدستور استقلالها ولا يصدق على الهيئات القضائية، فهي نظرة قاصرة لا تلم بالهدف الحقيقي من هذا التعديل، وهو التدخل في سير العدالة، وفي اختيار القاضي الطبيعي، وهو ما ينبغي أن يكون واضحا للعيان لاستنفار الأمة كلها ضده، باعتبار أن حماية العدالة هي حق المواطن، أو كما يقول الأصوليون هي حق الشرع.التدخل في اختيار القاضي الطبيعي وآية ذلك أن التدخل في سير العدالة لا يقتصر على التدخل في قضية ما لمصلحة طرف من أطرافها، ولكن يمتد إلى التدخل في اختيار القاضي الذي سيحكم في النزاع، وهو ما يطلق عليه القاضي الطبيعي، باعتباره ضمانة أساسية من ضمانات حماية العدالة.فقد اخترق مجلس النواب المصري بهذا التعديل التشريعي هذه الضمانة الأساسية في حماية العدالة وأخل بها، بالنسبة إلى أعلى محكمتين في مصر وهما محكمة النقص والمحكمة الإدارية العليا، عندما أقر تعديل قوانين الهيئات القضائية ليخترق الحصن الحصين للقاضي الطبيعي في هاتين المحكمتين، عندما يصبح للحكومة الرأي الأعلى والقِدْح المعلّى في اختيار رئيس هاتين المحكمتين، وهي خصم أصيل ودائم في كل الخصومات التي تعرض على القضاء الإداري والتي ينتهي مآل الفصل فيها إلى المحكمة الإدارية العليا.تحويل ساحة القضاء إلى حلبة صراع كما أن التعديل التشريعي لم يكن يستهدف إهدار الأقدمية في ذاتها في شغل مناصب رؤساء الهيئات القضائية لمناصبهم، وهم سدنة العدالة، والأقدمية هي المعيار العادل الوحيد الذي لا تداخله الأهواء أو الأغراض، ولكن ما رمى إليه هذا التعديل يجاوز إهدار الأقدمية أو ضبط الاختيار لهذه المناصب اللذين امتطاهما هذا التعديل، فقد تفتق ذهن الحكومة عن الإيعاز لأحد نواب ائتلاف دعم مصر بتقديم اقتراحه بالتعديلات، سالفة الذكر، أو كان النائب الذي قدم الاقتراح ملكيا أكثر من الملك، فقدمه بمبادرة منه عقب صدور بعض الأحكام القضائية، التي قلبت خطط النظام، خصوصاً أنه قد حال حكم قضائي بإبطال إحدى المعاهدات بينه وبين مجلس النواب في إقرار هذه المعاهدة، وقد تأيد هذا الحكم من المحكمة الإدارية العليا، التي يترأسها أحد رؤساء الهيئات القضائية، وهو رئيس مجلس الدولة. ومن هنا فإن التعديل التشريعي، سالف الذكر، من مجلس النواب كان ضرويا لتحقيق الأهداف التالية: 1- أن يصبح شاغل هذا المنصب مدينا للحكومة به لا مدينا لمشواره الطويل في خدمة العدالة وإرساء مبدأ سيادة القانون.2- أن يصبح السبعة الكبار الذين يشغلون المناصب الرفيعة في كل هيئة قضائية، وقبل خلو هذا المنصب، رهائن تطلعهم لهذا المنصب، ورهائن لتقارير الأجهزة الأمنية عنهم، التي ستصبح معيار الاختيار بدلا من معيار الأقدمية.3- أن تتحول الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة الذين يجمعهم الاحترام المتبادل بعيدا عن النيل والتعريض، في استخدامها لصلاحياتها في الموافقة على تعيين نواب رئيس مجلس الدولة، وفي ترشيحها لرئيس مجلس الدولة إلى ساحة صراع بين أقدم سبعة من مستشاريه، فيحشد كل منهم مؤيديه، ليتم التصويت عليهم جميعا، بما ينال من هيبة هؤلاء الرجال الذين وهبوا حياتهم لخدمة العدالة وإعلاء كلمة الحق، فتدخل السياسة إلى ساحة القضاء، بل إلى منصته.4- إقصاء أقدم نواب رئيس مجلس الدولة الحاليين، وهو المستشار يحيى الدكروري الذي حل عليه الدور بالأقدمية ليترأس مجلس الدولة في أول يوليو القادم، فهو الذي أصدر حكم بإبطال هذه المعاهدة، وتوعد التعديل غيره بذات المصير.5- وقد يدفع اختيار الأحدث من بين المستشارين السبعة إلى استقالة من تم تخطيهم، حتى لا يتعرضوا- وهم على منصة القضاء- لمهانة طلب الرد أو عدم الصلاحية، وقد دانهم التخطي بعدم الصلاحية.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية حول الاقتراح بقانون خفض سن تقاعد رجال القضاء إلى سن الستين الذي وعد بتقديمه هذا الأسبوع النائب عبدالعاطي حامد، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فقد قدم حزب الوسط في مجلس نواب 2012 اقتراحا مماثلا إلى مجلس النواب (الكتاتني) وهو الاقتراح الذي كان المسمار الأخير في نعش هذا المجلس.