لا مثال يحتذى به وواقع مزر
هذه الأيام نعيش جدلا سياسيا وأهليا يثير من العواطف، على تباينها، ما كانت القضايا الكبرى تثيره، ذاك أنه يرقى إلى سوية الشقاق أو الانفصال العظيم، وينطوي على حساسية عالية تستدعي صرف آخر قطرة من الانفعالات.وهو في مجمله يأتي كما لو أنه كأس فاضت من جانبيها، إذ جاء مسبوقا بشواهد متعددة كالاصطفافات المذهبية والفئوية والعشائرية في غير دورة انتخابية، والمناوشات داخل قاعة البرلمان والتشنج الموتور في التعاطي مع الأزمات الإقليمية، وهذه كلها مجتمعة تدحض الرواية البسيطة والتبسيطية عن تلاحم المجتمع.
ولئن استبعد المرء الانحطاط المغلف بالبذاءة، الذي وفرت له وسائل التواصل الاجتماعي صوتا أعلى، فإن ما يجري في الكويت ليس سوى عينة صغيرة مكرورة عن تجربة عربية أشمل هي الانفصال بين الواقع والطوبى من جهة، ومن جهة أخرى أكثر خصوصية يلخصها الإخفاق في استيعاب دور النفط في إطلاق السياقات التاريخية لجماعات طائفية وعشائرية تنتمي إلى عهود ما قبل السياسة.آية ذلك انعدام التماس مع شروط المعاصرة والحداثة كالإقرار بالتعددية؛ مثل تعدد الجماعات والطوائف والفئات، والإمعان في نقل الانتماءات الضيقة إلى مصاف الأيديولوجية الوطنية ومن ثم ربطها بمصلحة المجتمع. وفي سياق كهذا لم تكن السلطة بريئة نائمة تنتظر قبلة الفارس النبيل كي تستيقظ من سباتها، فهي من حاولت تارة منفردة وتارة أخرى بالتحالف مع جماعات مناهضة للحداثة فرض مفاهيم قسرية وقمعية على المجتمع من طراز التكافل والتجانس والعائلة الواحدة وغير ذلك، والتي لم تعمل إلا على تعميق التجاذبات وتشتيت الأنظار عن المشكلة التي عجزوا عن مواجهتها وهي مشكلة الاندماج الوطني.إن هذا الشقاق الكبير الذي انتهينا إليه يلخص، بالمقام الأول، تحللا أخلاقيا وقيميا يترافق مع عجز فكري شامل عن فهم أوضاعنا، فالمواطنة وهي الطوبة الأساسية في تشكيل المجتمع الحديث، تكاد تقتلع مع إعلان البعض صراحة عدم رغبته في العيش بالشروط نفسها مع الآخر، ويتنصل من محددات الدولة الدستورية والقانونية، وهذا لا يفتح، في آخر المطاف، إلا على نزاعات مطلقة ودائمة يشحذ فيها المرء أسوأ ما في أعماقه.