وثبة الكنغر
أشرع مع الكتاب يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم أجدني أثبُ إلى كتابٍ آخر، ثم بعد يومين أو ثلاثة إلى كتابٍ ثالث... ثم أعود إلى تكملتها فيما بعد، وهكذا. احتفيتُ بالكتاب الإلكتروني، لا لأني أحملُ فيه مكتبة عامرة حيث أذهب فقط؛ بل لأنه ييسر لي مزيداً من هذه الوثبات بين كتاب وكتاب، بلمسة أصبع. تتداخل مع هذا وثباتُ الكتابة؛ ومطلع مقالة، ثم أعود إلى منتصفِ فصلٍ من كتابٍ لم يكتمل، أو ترجمةٍ تدب بطيئةً، حدث أن هجرتها أكثر من شهر، ثم أعود للقراءة، أو أهجر كل هذا إلى الإصغاء للموسيقى. الرسم لا يقدم إعانة هذه الأيام، فالكانفس مُعد في انتظاري ولا بادرة مُلهمة. هل تسمي كلَّ هذا قلقاً؟ أشك في ذلك. هل تسميه رغبةً غيرَ منتظمة في المعرفة؟ أشك في ذلك أيضاً. فالقلقُ يساور المرءَ القلِقَ لحظةَ القراءة وخارجها، وأنا مستسلمٌ للا هدف، ومطمئنٌ إلى أن الحياة لغزٌ بالغ السحر. فلم القلق؟ إلا أن هناك قلقاً وجودياً عادة ما يدعم المواصلة في القراءة من أجل ثمرة، ولا يربكها. هذه حال قراءتي منذ عقود. كانت فاعليةً لذيذةً غيرَ منفصلة عن لذاذة الكتاب: ورقاً، أحرفَ طباعة، زمناً دفيناً في الرائحة. حين جاءني الكتاب الإلكتروني، لم أمانع، واستطعتُ أن أتقبّلَ غفلتي عن الورق وحرفِ الطباعة ورائحةِ الزمن الدفين، بين حين وحين. واتضحتْ رغبتي في المعرفة بكل وسيلة متاحة. ولكن لمَ هذه الوثبةُ من كتاب لم يكتمل، لكتاب آخر لم يكتمل؛ وكأني أقرأ كتاباً لنْ يكتمل؟ لعقود وأنا أتامل كتبي الورقية بالعلامات المقحمة بين صفحاتها، وكتبي الإلكترونية بعلامات الوقوف. أتاملها، حريصاً على معرفة الدوافع، التي بدت لي غامضة. وأنا أدرك أن معرفة الدوافع هي إحدى سبل معرفة النفس. وأنا دائم المثابرة لمعرفة نفسي.
كنت أشعر أن الوثبةَ من كتاب لم يكتمل لكتاب آخر تنطوي على حاجة، وأن هذه الحاجة تنطوي بدورها على شيء ما يشبه الضيق، أو الأسى، أو الحرمان، أو خلطةً من هذه المشاعر جميعاً. ولأن هذه الحاجة، وهي حاجة للمعرفة دون شك، تشبه كلَّ حاجة لدى أي قارئ، اعتبرتها ليست شخصيةً وغيرَ مقتصرة عليّ، فهجرتها إلى تأمل تلك المشاعر التي تشبه الضيق، الأسى، الحرمان. فهي، على ما بدتْ لي شخصيةً ومقتصرةً عليّ؛ فأنا لم أقرأ لأحدٍ يزعم بشأن القراءة ما أزعم. ولأني تبينتُ هذا، وجدتني أنحني على عالمي الداخلي، باحثاً كـ "ديوجين" عن إضاءة، وما من مدخلٍ له أبلغ من قصائدي، فصرتُ أستعيد منها ما أعتقده مفتاحاً. أنا الذي أعتقد دائماً أن قصيدةَ الشاعر هي قراءة لعالمه الداخلي، لا قراءة للآخر أو قراءة للتاريخ. في القصائد، منذ منتصف الستينيات، ثمة هاجس لا يطمئن للكتاب، للقصيدة، للكلمة كدليل داخلي للروح والعقل: " وحين يُفاجئني الشعرُ أُطفأ، / تعجزُ أبْهى النهاراتِ عن أن تقاومَ ليلَ القصيدة." "... رأسي قبضةُ ريحِ./ مزّقتُ الشعرَ، ورحتُ أفتشُ عن معنىً لتباريحي." "أرى الكتاب شفتين من حجرْ/ بينهما غار على اللسان نبعُ الصوتْ،/ لكنه يعرفُ أن يختزلَ الجوابْ/ بكلِّ ما في الصمتْ/ من العِبرْ". هذا الارتياب الذي يبدأ بالكلمة التي تُكتب، يشمل الكلمةَ التي تُقرأ في كتاب. بل يشمل حتى أشياء الحياة اليومية: "جدرانٌ، نافذةٌ، وكراسٍ مستترة/ بمظاهرها. وأنا أتأمل، لو أَقرأ/ ما يَخفى من معناها، أنتظرُ/ أنْ تُنبئَ عن سرٍّ مَرّة،/ أنْ تُعلنَ عن حكمتِها الأشياءْ". القراءة في كتاب لا تهدف، إذن، إلى المعرفة وحدها. ثمة هدفٌ آخر أبعد مدى من المعرفة، هو الحقيقة. المحدثون يرون أن الحقيقة وهم، وأنا لا أرى كلمة "وهم" مجرد صفة عارضة، بل هي جوهر في "الحقيقة"، مادامت الحقيقة على هذا القدر من الغموض. القراءةُ بحثٌ عن هذه الحقيقة / الوهم، ولذا سرعان ما تُشعرني القراءة التي لم تصل بأنها دون طائل. يُرهقني سوء الظن بالمواصلة. أتوقف، وأثب إلى قراءة أخرى وثبة الكنغر. أستعيدُ الأمل ثانية وأعود لأكمل ما بدأته، ثم أُرهق بسوء الظن، أتوقف، وأثب...