أن تقرأ للكاتبة نهى محمود، معناه أن تعيش وتتنفس وترتشف مذاق وطعم ورائحة مصر، بأزقتها وحاراتها وأناسها العاطفيين الطيبين، المندفعين بأحاسيس الحب والغضب، الطيبة والعنف، الرضا والزعل، كله، بعضه مع بعض، يصبح عجيناً من الانفعالات الإنسانية المختلفة "ضُربت بخلاط" نهى الفني الأدبي، وأخرجت لنا صوراً حية من لحم ودم للروح المصرية بكل تنويعات صلصالها.نهى محمود كاتبة مصرية شابة، صدرت لها رواية "الحكي فوق مكعبات الرخام"، ورواية "راكوشا"، ورواية "هلاوس" الحائزة المركز الأول لجائزة دبي الثقافية، وكتاب "نامت عليك حيطة"، و"كراكيب نهى"، و"بنت من ورق"، وآخرها المجموعة القصصية "الجالسون في الشرفة حتى تجيء زينب"، عنوان طويل غير موجود كقصة في المجموعة، ولم أجد سبباً لهذه التسمية، التي ذكرتني برواية رائعة نسيت اسمها، تروي على لسان قط حياة نساء جالسات على الشرفة، وهن لسن إلا أشباحاً لنساء عشن في هذه الشرفة، وحده القط يرى حياتهن وحركتهن فيها، وربما نهى رأت نفسها رقيبة على هذه الحيوات، التي كتبها أناس تخيلتهم من شرفة إبداعها.
نهى محمود حكّاءة متدفقة بقدرات سلسة منغرسة بسهولة ويسر، بنسيج أبطالها وكل من حولها من بشر، لها عين راصدة لأدق انفعالاتهم، تسبر أغوار أحاسيسهم، تتغلغل بروح الناس، تعكس محاسنهم وعيوبهم وضعفهم البشري، تعيد سكبها وتشكيلها بصور شخصيات مختلفة، مطحونة، مفترية، ضعيفة، حزينة، كوميدية، نماذج بشرية تعيش من حولها، قفزت واستقرت في جوفها، وخرجت قصصاً بكتابة حساسة قريبة من القلب، تستطيع أن تعيد قراءتها كلما اشتقت إليها.كتابتها مشبعة بالروح المصرية بعاداتها وتقاليدها وتصرفات أهلها، التي لا تشبه أي أحد آخر من الدول العربية، كتابة مصرية حتى النخاع، معايشة وقادرة على فهم وهضم روح وجوهر الإنسان المصري، تقدمها بكل سهولة وبساطة، تشعر القارئ كأنه "عايش في وسطيهم"، لأن مصر غنية بالحكايات والقصص الغريبة المختلفة المتولدة من رحم حضارات ذابت في نسيجها، حتى انبثقت هذه العادات والتقاليد الخاصة بهم، بالتالي انعكس على إبداع كتابها، ومنهم جراب نهى المملوء بحكايا لا تنتهي. عندما قرأ الكاتب "محمد مستجاب" روايتي" الجميلات الثلاث" انتبه إلى عدم وجود أو ذكر لامرأة تغسل الأطباق أو تكنس البيت وما إلى ذلك من شؤون تخص البيت، هذه الملاحظة لا تنطبق على روايتي فقط، بل ربما تنطبق على جميع الروايات الخليجية، حيث إن هذه الأعمال تكون من نصيب العاملة المنزلية، وأيضاً لن يكون هناك ركوب للحافلات، بالتالي لا وجود لحالات تحرش فيها، هذه الاختلافات، هي التي تبين وتعكس صور الحياة وتؤرخها في الرواية.هذا إلى جانب الوصف الخاص بروح الأمكنة والمقيمين فيها، منحوتة في قصص تمسك بالقلب من شدة ما تعكس واقع أناس من لحم ودم، وليست شخصيات مكتوبة على ورق.كثير من مشاهد القصص توقفتُ عندها لغرابة حدوثها بالنسبة للمجتمعات الخليجية، مثل قصة "رزقة" التي تشق جلبابها، الذي لم تكن ترتدي شيئاً تحته كمظهر للرفض والاعتراض على زواج أختها من رجل تحبه هي، ويتكرر فعلها بشق الثوب عند اعتراضها لأي أمر آخر، تصرفات خاصة في المجتمع المصري، هذا مقتطف منها: "عندما دخل الجار القديم وصديق المرحوم ليقدم واجب العزاء، نهضت وجلست نصف جلسة، ثم رقعت بالصوت الأعلى، وألقت سؤالها الخالد: "يموت كده من غير صريخ ليه؟! هو فرخة يا ناس؟!"وهذا أيضاً مشهد غير معتاد إلا في مصر: "بعد دقائق قليلة فتح الأخ، شعاع ضوء كان يعبر من إحدى الغرف سمح لي برؤيته بشكل غير واضح مرتدياً المنامة الكستور الكالحة ذاتها، التي أراه يرتديها معظم الوقت من الشرفة، يضع فوق رأسه فردة جورب حريمي شفاف، يربطها جيداً، كطريقة قديمة يستخدمها بعض الرجال لتسريح الشَّعر وتنعيمه، طريقة تشبه لف السيدات لشعورهن بمشابك الشعر والرولات".وأكثر القصص غرابة على المجتمع الخليجي قصة "الفخ" حيث تتبلى الجارة على جارها بعلاقة حب رغم كرهه لها وابتعاده عنها، لكنها تحاول الاقتراب منه بشتى الحيل، قصة دمها خفيف وفعلها غير اعتيادي خصوصاً عندما تفتعل حملها، وهي قد جاوزت عمر الحمل، ثم تغيب فترة وتعود إلى شقتها وتخبر الجار عن ولادتها في هذا المقتطف: "قالت لي إن الطفلة ماتت بعد ولادتها، وإن جدها أبو أمجد يتهمها بأنها قتلتها... تصور؟!"
توابل - ثقافات
الجالسون في الشرفة حتى تجيء زينب
03-04-2017