ومازلنا مع «الجمال.. والسحر»!
أشرنا من قبل إلى أهمية الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية والتشكيلية، والمكانة التي ينبغي أن تتبوأها جنباً إلى جنب مع الأفلام الروائية الطويلة، التي استأثرت، ونجومها، بالاهتمام، فضلاً عن الشهرة والجاه والحظوة، وتعمدت التوقف – في مقالي السابق – عند الأفلام القصيرة المتميزة التي نالت إعجاب لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة السادسة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية (16 – 22 مارس 2017)، وفازت بجوائزها، وقبل أن أختتم مقالي قلت بالحرف الواحد : «هذا لا ينفي وجود أفلام جديرة بالإشادة، والتنويه، حتى لو لم تنل نصيبها، وحظها، من الجوائز»، وهو ما سأركز عليه هنا. أول هذه الأفلام يحمل عنوان «رحلة كلثوم» (الجزائر/ 24 دقيقة) إخراج أنيس جاد، وهو فيلم يقطر شجناً وعذوبة وإنسانية بطلته الزوجة الجزائرية الأصل التي تعيش، مع زوجها وابنها وزوجته، في إحدى دول المهجر، لكنها تجد نفسها في مأزق، بعد إلحاح أختها المريضة على ضرورة العودة إلى مسقط رأسهما في الجزائر من أجل زيارة قبر أمهما، بينما تعاني الزوجة مصاعب مالية تحول دون تحقيق الرغبة الأخيرة لأختها، قبل أن تهتدي إلى حيلة تحقق من خلالها أمنية الأخت التي تحتضر، وفضلاً عن المشاعر الفياضة التي غلفت الفيلم يثير المخرج نقطة مهمة تتعلق بمعاناة المهاجرين العرب في دول المهجر، ورغبتهم الدفينة في العودة إلى الجذور .
«أبانا» (بوركينا فاسو / 13 دقيقة) إخراج بارث لامبير أوبدا هو الفيلم الثاني في قائمة الأفلام، التي لفتت أنظار الجمهور، والمهتمين، وجرى استقبالها بحفاوة ترجع – في رأيي – إلى قضية الفيلم، التي تستحوذ على الاهتمام في كل مرة تُصبح فيها موضوعاً لفيلم ما، سواء طويلاً، تسجيلياً، أو قصيراً، حيث الصبي الإفريقي الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، ويعيش مأساة سببها القس الذي تحرش به، وهو طفل، ورفض أن يحكي لأمه سبب عزلته، وفي اللحظة التي يذهب فيها إلى الكنيسة للاعتراف، يُدرك أن الوقت قد حان للثأر لنفسه من القس الآثم ، والفيلم يبهرك بتصويره وإضاءته ( برنارد تيري)، واعتماده على الظلال، وإضفاء طبيعية ومصداقية على مصادر الإضاءة الصناعية (الشمعة)، وقوله ما يريد باختصار وتكثيف، وترفعه النبيل عن استغلال الفكرة للإساءة إلى الدين، أو النيل من مهابة رجل الدين، بعكس الحال في فيلم «الرب» (كوت ديفوار/ 17 دقيقة) إخراج بوريس أوييه، الذي لم يترك مشهداً في الفيلم من دون عنف وإراقة للدماء بطريقة وحشية لا تخلو من سادية (الفتى الذي يدعو صديقته إلى مكان ناء، وهناك يتحول إلى وحش آدمي، بحجة أنه يحقق رؤية جاءته في المنام) ! «شباكي» ( مصر/ 18 دقيقة) إخراج بهاء الجمل، فيلم آخر لم يمر مرور الكرام، في المهرجان، نظراً لرؤيته الفنية المتمردة، وأسلوب سرده المغاير، وغير التقليدي، ومزجه الفريد بين الروائي والتسجيلي، وتجارب السيرة الذاتية، ورصد مشاعر الإحباط والهزيمة، والفوضى التي تخيم على الواقع ( البطل ينقل لنا جانباً من حياته اليومية، وأزمته نتيجة هجرة صديقه)، ونجح المخرج، بدرجة كبيرة، في «تسريب» هذه الأحاسيس المضطربة، والمشاعر المتناقضة، من خلال بناء مُحكم، وتلقائية تحسبها عشوائية، وتوازن دقيق ومحسوب، وإن كنت تخاله مرتجلاً، وموسيقى منتقاة بعناية تضعك في بؤرة «الحالة» . مفاجأة مثيرة أخرى تمثلت في فيلم سنغالي عنوانه «فتاة الملاكمة» (25 دقيقة) مزجت مخرجته إيمان دجيون بين الواقعية والفانتازيا في تجربة فنية طريفة بطلتها فتاة تعمل مصففة للشعر، وتوقعها الأقدار في حادث يقودها إلى العثور على زوجي قفازات ملاكمة يقلبان حياتها جحيماً، بعد أن تكتشف عجزها عن التخلص منهما، لكن مع نهاية رحلتها التي تلتقي فيها شرائح مختلفة من البشر، تكتشف أن الأقدار وضعت هذه القفازات في طريقها لترسم مصيرها، وتحدد مستقبلها ، أما مفاجأة المهرجان الحقيقية فتمثلت – في رأيي – في الفيلم السوداني «نيركوك» (19 دقيقة)، فالمخرج محمد كردفاني يتناول أزمة عولجت مراراً وتكراراً، تلك المتعلقة بأطفال الشوارع، لكنه يباغتنا بأسلوب يغلب عليه التفاؤل، ولا مكان فيه للكآبة والمأساوية، حول الطفل «آدم»، الذي لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره لكن الظروف ( عائلته قُضي عليها في غارة جوية دمرت قريته) تسوقه للعيش في كنف «بلطجي»، يستغل جسده النحيف، وقصر قامته، في السطو على شقق وفيلات الأثرياء، والاستيلاء على أموالهم ومتعلقاتهم الثمينة، لكن الصبي يُفتن برفيقته التي تحرضه على الثورة، قبل أن تقع في قبضة من لا يرحم، وتتعرض للاعتقال والتعذيب ما يوغر صدر الصبي ضد «البلطجي»، وينتهز فرصة وصول صاحب الفيلا قبل موعده ليوقع بالمجرم، ويهرب في واحد من أهم، وأفضل، مشاهد الفيلم، حيث تتنوع اللقطات للطفل الهارب في الشوارع بين العامة والمتوسطة والمقربة، فيما تحاصره الموسيقى، وهي تخفت ثم تتصاعد في «كريشندو» جرى توظيفه ببراعة، مع شريط الصوت، وينتهي الفيلم بإدانة صارخة للمجتمع الذي جعل من «آدم» ضحية !