الموصل... النضال مستمر بين خوف واستنكار!

نشر في 03-04-2017
آخر تحديث 03-04-2017 | 00:02
No Image Caption
تقول منى (33 عاماً) إنها عادت إلى الحياة بعد سبع ساعات من المشي، حافية القدمين، تحت وابل من الرصاص والأمطار الغزيرة. كانت تبحث عن مستشفى لأجل شقيقتها زينب البالغة من العمر 19 عاماً بعدما أصيبت من جرّاء قذيفة هاون. لم تترك أي منهما يد الأخرى. تقرير مشوق من «باري ماتش» الفرنسية.
في مستشفى تديره «منظمة المرأة والتحالف الصحي الدولي» في الموصل، يعمد العاملون إلى معالجة الحالات الطارئة وتقطيب الجروح ومواساة المرضى ويصرخون من وقت إلى آخر! كذلك يتعثرون أثناء تنقلهم بين الأسرّة الطبية الستة.

جلست الشقيقتان زينب ومنى على سرير عادي له قضبان صدئة. كانت الشقيقة الصغرى صامتة بينما لم تتوقف الشقيقة الكبرى عن الكلام. عبّرت الأخيرة عن مشاعر الغضب والسخط والكره التي تنتابها، معترفةً بأنها تشعر بالضعف ولا تكفّ عن التفكير بما يحصل.

هربت الشقيقتان كي تبقيا على قيد الحياة وتركتا خلفهما جثث شقيقتهما وعمّتهما وخمسة أنسباء لهما لقوا حتفهم تحت أنقاض منزلهما. حتى تلك الفترة، لم تكن منى تجرؤ على التفكير بالهرب. خلال الأسبوع الذي سبق هربهما، اعتُقل خمسة جيران بهذه التهمة. أوقفهم رجال «داعش» في صف طويل في الشارع وأطلقوا النار في رؤوس البعض، فيما كسروا ظهر البعض الآخر.

أدركت منى ما يستطيع هؤلاء المجاهدون فعله منذ فترة طويلة. قبل شهر، أُعدِم أحد أنسبائها لأن بطاقة هويته كانت تحمل ختم بغداد. كان ذلك الختم كافياً كي يُعتبر في مصاف «الكفار» وعملاء الحكومة. تقول منى: «كانوا يقطعون رؤوس الناس بشكل شبه يومي. لم أشهد على تلك الحوادث يوماً لكنّ ابني وزوجي شاهدا كل شيء». قبل أيام من الهرب، لم تستطع منى أن تتجنب رؤية إعدام رجل كان يدخن في الشارع: «أطلقوا النار على ساقيه في البداية ثم علّقوه بخط هاتفي وأطلقوا رصاصة في رأسه. كانت جثته لا تزال موجودة حين غادرتُ».

رعب ومخبرون

يحكم تنظيم «داعش» المنطقة عبر نشر الرعب والمخبرين. في سوق باب السراي المخصص للنساء، شاهدت منى كتيبة «الخنساء» النسائية الشهيرة: كانت النساء ضمن تلك المجموعة يضعن أسلحة الكلاشنيكوف تحت النقاب ويتولّين مراقبة النساء هناك: «في تلك الفترة، كانت الغرامة المفروضة على المرأة التي لا تضع قفازين أو لا تغطي كامل وجهها بحجاب ثالث تصل إلى 50 ألف دينار. لكن كانت العقوبة تشمل العضّ أحياناً! في هذه الحالات، كانت نساء الكتيبة يضعن ما يشبه الجهاز المعدني لعضّ يد المرأة المكشوفة أو ثديها إذا كانت العباءة ملتصقة جداً بجسمها أو خدّها إذا كان الحجاب شفافاً... كانت النساء يتنقلن جماعياً بالسيارة في بعض الأحيان، لكنهن يَتُهْنَ بين الحشود في معظم الأوقات ويستحيل التعرف إليهن لأن ملابسهن تشبه ملابسنا. كان يمكن أن نتكلم مع إحداهن من دون أن نعرف هويتها».

امتيازات

لاحظت الطبيبات والممرضات في مستشفى البتول في غرب الموصل، حيث تكثر المراكز الطبية، الامتيازات التي تتمتع بها زوجات المجاهدين اللواتي يدخلن إلى مساحات خاصة بهن ويستفدن من خدمات طبية مجانية. تضطر النساء الأخريات إلى دفع 10 أو 20 ألف دينار. تحتفظ سما بذكريات سيئة عن النساء الأجنبيات، لا سيما التركيات والروسيات، وتعتبرهنّ متعجرفات. بحسب قولها، كنّ يجبرن على تلطيف أسلوبهن حين يحضرن من دون إذن أزواجهن. كانت التركيات يتكلمن عن الدين أكثر من غيرهنّ. وحين يكون المولود المنتظر صبياً، كان بعضهن يعلن أنه هبة لدولة الخلافة حيث سيصبح جندياً مستقبلياً.

تتذكر الممرضة إبرسام تجاربها مع بعض النساء الأجنبيات كالفتاة الفرنسية «أم أنيسة» التي كانت تبلغ 16 عاماً وجاءت لمعالجة ألم معدتها مع حراس شخصيين وطفل على ذراعها وسلاح الكلاشنيكوف على كتفها. تحت نقابها الطويل، كانت تخفي وجهاً يفيض بالماكياج ووشماً كبيراً على ساعدها. تعيش إبرسام على بُعد أقل من كيلومترَين من المدينة القديمة، بالقرب من جبهة القتال. لكن لا تؤثر المروحيات القتالية أو أصوات قذائف الهاون التي تهز الجدران بابنَيها المراهقَين اللذين يعملان أمام الحاسوب. تشاهد ابنتها من جهتها التلفزيون في معظم الأوقات.

تشعر والدتهم بالقلق عليهم لأنهم لم يقصدوا المدرسة منذ ثلاث سنوات. قبل وصول «داعش»، كان المستشفى الذي تعمل فيه يشمل 3 آلاف موظف. لكن لم يبق منهم اليوم إلا 700 شخص وتراجع راتبها من 500 دولار إلى 35 دولاراً، أي ما يساوي دولاراً في اليوم.

عقوبة الرجم

ليست تلك النساء متساويات أمام قانون «داعش». في ما يخص عقوبة الرجم التي تبقى حكراً على الزانيات أو النساء اللواتي يقمن بعلاقات خارج إطار الزواج، قالت منى: «يحصل الرجم في الشارع أو في إحدى الباحات. يجيد عناصر التنظيم إصابة رأس المرأة وقتلها بضربة واحدة وبأكبر الأحجار المتاحة». لكن يختلف الوضع إذا كان شقيقها أو أحد أقاربها مجاهداً: «سيصوّبون في هذه الحالة على الساقين والذراعين ويسمحون لها بالهرب ويتظاهرون بأنهم يحاولون الإمساك بها... عرفتُ عدداً من أولئك الرجال حين كنت أصغر سناً وها هم يأتون الآن لإعطائنا دروساً في الأخلاق ولتطبيق قانون الحياة والموت علينا...».

أحرقت منى نقابها وسط عائلتها، لكن لا يجرؤ معظم نساء الموصل على نزع ذلك النقاب الذي لم يعتدن عليه يوماً. تقول الطبيبة سما (32 عاماً): «لم يعتبرونا في مصاف البشر يوماً بل كنا في نظرهم مجرّد آلات يجب أن تتابع العمل لأنهم يحتاجون إلى كفاءاتنا».

جلادون

تتولى إبرسام منصباً إدارياً في المستشفى ولا تكفّ عن تلقي الطلبات: «يأتي رجال من الموصل لطلب إفادات طبية تعفيهم من المهام العسكرية، من بينهم مقاتلون سابقون كانوا يدعمون تنظيم «داعش» لكنهم لا يريدون الذهاب إلى الجبهة. كانوا يدفعون كلفة تلك الإفادات طبعاً». كان الرجال الأكثر فقراً يطلقون النار على قدمهم ويزعمون أنهم أصيبوا خلال القصف أو داسوا على ألغام. في الوقت نفسه، لم يكن من حق الأشخاص الذين بُترت أطرافهم بقرار من المحكمة الإسلامية أن يتلقوا العلاج حتى لو ساء وضعهم. كان ثمة مصابون يأتون إلى المستشفى خلسةً ويدّعون أنهم جرحوا نفسهم بآلة ثم يغادرون سريعاً لأنهم قد يُعدَمون إذا اكتُشِف أمرهم. كانت إبرسام تحمل البنسلين أو المضادات الحيوية إلى منزلها لتوزيعها. تأتي كميات الدواء من تركيا خصوصاً وبدرجة أقل من سورية. لكن تصل أيضاً أدوية أخرى لا تُستعمل في العلاجات الطبية. يستهلك المجاهدون كميات كبيرة من مشروبات الطاقة يبتلعونها مع حبة بيضاء تشبه أدوية الإيبوبروفين. بهذه الطريقة لن يشعروا بأي أمر ولن يدركوا ما يفعلونه.

ربما كانوا يستعملون الكبتاغون قبل أن يقتلوا الناس ويغتصبوا الفتيات. تقول سما: «لا أتذكر تفاصيل كثيرة لكنهم كانوا يجلبون شابات صغيرات إلى المستشفى كي نعطيهن الحقن. لم يشأ «أزواجهن» إنجاب الأولاد. كان معظمهن من الطائفة اليزيدية.

تعرف سما هذه الأقلية المقموعة جيداً، فهي عملت في مستشفى سنجار ثم أمضت بضعة أشهر في تلعفر حيث كان عناصر «داعش» ينقلن النساء اللواتي يستعبدونهنّ. تتذكر سما شابات جلبهنّ الجلادون مع «عقد الشراء» الذي يسمح لهن بالإنجاب أو يمنعهنّ من ذلك.

هكذا تستمر الحياة في الموصل، ما بين الخوف من المجاهدين والقصف وبين مواقف الاستنكار... لكن تتمسك الفتيات بأحلام وردية رغم الظروف كافة.

مخبر لدى «داعش»

لم تشاهد ريهام (16 عاماً) إلا شاباً عادياً عمره 19 عاماً جاء يقرع بابها مع والدته وجدته لطلب يدها: «لم يكن ملتحياً وبدا لطيفاً. أردتُ أن أتزوج كجميع صديقاتي». لذا وافقت على طلبه. لكن بعد ليلة الزفاف، بدأت المصائب تتلاحق. تبيّن أن زوجها لا يعمل إلا يومين في الأسبوع. وبعد ثلاثة أشهر، اكتشفت أنه عنصر في «داعش»: «فهمتُ ما جعله يرتدي تلك الملابس. كان يتجسس على الناس ويشي بعملاء الحكومة والمسيحيين واليزيديين والكفار... كان يحضّر لوائح طويلة بالأسماء». خسرت ريهام الطفل الذي حملت به تحت تأثير الضرب: «رغم معرفتي بانتماء زوجي إلى «داعش»، أردتُ أن أنجب ذلك الطفل كي أجد من أحبه. كان ليصبح السبب الذي يدفعني إلى متابعة العيش».

اليوم، عادت ريهام لتختبئ مع أمها سناء في غرفة باردة داخل منزل يقع في شرق الموصل. أصبحت أرملة منذ عشر سنوات وبقيت لها أربع بنات. كيف يمكن أن تحميهنّ وحدها إذا كانت لا تكسب أي مدخول؟ كانت تفتخر في السابق بابنها محمود (20 عاماً) الذي كان يعمل في مطعم لكن لم يترك له تنظيم «داعش» أي خيار. مقابل 50 دولاراً في الشهر، أجبروه على ملازمة أحد الجسور لضمان الدفاع المضاد للطائرات. لكنه مات بعد مرور أسابيع. منذ ذلك الحين، تقول سناء إن شيئاً لم يعد يهمّها بل إنها تتابع العيش لأجل بناتها بكل بساطة.

المرأة العراقية

كانت سما شاهدة على حوادث كثيرة. رأت أعداداً هائلة من النساء اللواتي يعشن معاناة مريعة بصمت ويأتين إلى المستشفى لإنجاب أطفالهن بعد ساعات من الانقباضات المتواصلة. تقول: «لا تفكر المرأة العراقية بنفسها، حتى لو كانت تتمزق من الداخل، بل تهتم بزوجها وأولادها... ماذا يمكن أن أقول عن نساء البصرة اللواتي يرسلن أبناءهنّ إلى الموت لأجل تحرير مدينتنا؟ أو نساء الموصل اللواتي خسرن ابناً أو زوجاً أو شقيقاً أو أباً لكنهن يصمدن رغم الظروف؟ ربما تتوقف سلامة المرأة العراقية وحريتها على الرجل ظاهرياً، لكنها تبقى في العمق أكثر قوة من أي رجل آخر!».

أُعدِم لأن بطاقة هويته كانت تحمل ختم بغداد

لاحظت الطبيبات في مستشفى البتول الامتيازات التي تتمتع بها زوجات المجاهدين

الفتيات يتمسكن بأحلام وردية رغم الظروف كافة
back to top