هل أوروبا مستعدة لتبنّي النموذج الجديد القائم على الاختلاف لا التشابه؟ صحيح أن عدداً من القادة الوطنيين، فضلاً عن "الورقة البيضاء" التي قدمتها المفوضية أخيراً، أيدوا قارة أوروبية تسير بسرعات مختلفة، إلا أنهم كانوا يفكّرون في طريقة تتيح لمجموعات صغيرة من الدول المضي قدماً في مجالات مثل الدفاع والضريبة من دون أن تُضطر إلى انتظار الجميع، مستخدمةً أدوات المعاهدة التي تسمح بتعزيز التعاون، صحيح أن قارة أوروبية متعددة السرعات والمستويات تشكّل طموحاً أكبر بكثير، إلا أن مشاكل الاتحاد الأوروبي اليوم تبدو مقلقة كفاية من دون الحاجة إلى إعادة النظر في بنية هذا المشروع.

لا شك أن قارة أوروبية أكثر تفاوتاً تقوم على فكرة هندسة رياضية متغيرة، ومدى من السرعات، ودوائر متراكزة، تشكّل وسيلة جيدة للتخفيف من التوتر والاضطرابات التي يُبتلى بها الاتحاد الأوروبي الحالي المتصلب بإفراط.

Ad

ولكن لمَ تثير فكرة الهندسة الرياضية المؤسساتية المتغيرة معارضة كبيرة؟ ثمة أجوبة ثلاثة: الأول أن الدول في المستويات الخارجية قد تشعر أنها أصبحت دولاً من الدرجة الثانية.

رغم ذلك، لا مبرر عموماً لهذه المخاوف، بما أن الهندسة الرياضية المتغيرة شاملة جداً، ولا تبدو فكرة تشكُّل طبقة عليا تضم أعضاء متكاملين إلى أبعد الحدود وأخرى دنيا تتألف من دول لا روابط متينة ومنطقيةً بينها، فمن الأفضل لبعض الدول أن تتنحى عن مشاريع لم تصبح بعد جاهزة لها، حتى لو عنى ذلك التضحية ببعض النفوذ الأوسع.

فيما تخوض بريطانيا مفاوضات للخروج من الاتحاد الأوروبي، تواجه الموقف عينه: لا مجال للحصول على ولوج خاص إلى السوق الموحدة أو أي نوع آخر من التعاون، بما أن هذه حكر على من يقبلون بكامل التزامات الاتحاد. تعيد فكرة قارة أوروبية متعددة السرعات والمستويات إلى أذهان كثيرين صورة "انتقاء الكرز" التي يخشونها، هذه الصورة التي تستغل فيها الدول فوائد الاتحاد الأوروبي من دون أن تدفع الثمن المناسب. ويعتقدون أن القبول بأمر مماثل يعني المخاطرة بتقويض الاتحاد، كذلك يشير مَن يشعرون على هذا النحو إلى أن نوادي الغولف لا تسمح للدخلاء بتبديل القواعد واللعب ساعة يشاؤون، لكن هذا تشبيه خاطئ، إذ تقدّم معظم نوادي الغولف فئات عدة من العضوية، كما أن عدداً كبيراً منها يسمح لغير الأعضاء باللعب في الأوقات الأقل اكتظاظاً.

أما الحجة الثالثة المناهضة للهندسة الرياضية المتغيرة، والتي يطرحها أيضاً كبار البيروقراطيين الأوروبيين، فتعتبر أن هذا القدر من التفاوت سيحوّل الاتحاد إلى منظمة غير فاعلة تذكِّر بالإمبراطورية الرومانية المقدسة، لكن هذا التشبيه أيضاً خاطئ، صحيح أن فرنسياً، فولتير، هزئ بهذه الإمبراطورية معتبراً أنها "ليست مقدسة ولا رومانية ولا حتى إمبراطورية"، وأن فرنسيا آخر، نابليون، قضى عليها في وقت لاحق، لكن ابتكار شارلمان كان مرناً كفاية وتمتع باللامركزية الضرورية ليستمر رغم ما واجهه من حروب، وأوبئة، وانتفاضات دينية. تخلّت هذه الإمبراطورية مراراً عن أراضٍ وكسبت أخرى، حتى إنها سيطرت في مراحل مختلفة على أجزاء من فرنسا، وهولندا، وشمال إيطاليا، فضلاً عن ولايات ألمانية رئيسة (باستثناء بريطانيا).

وبهذه الطريقة نجحت عموماً في تأمين مقدار من السلام، والازدهار، والحرية، والأمن لسكانها يفوق ما نعمت به سائر مناطق أوروبا، كذلك دامت هذه الإمبراطورية ألف سنة.

إذا كان الوقت لا يزال مبكراً لمعرفة ما إذا حققت الإمبراطورية الرومانية المقدسة النجاح، فلنصغِ إلى إحدى خرافات إيسوب التي تعود إلى 2500 سنة مضت. تدور هذه حول قصبة تنمو قرب النهر إلى جانب شجرة بلوط ضخمة، وكانت شجرة البلوط تهزأ بالقصبة لأنها ضعيفة وتنحني مع أرق نسيم، ولكن ذات يوم هبّت عاصفة هوجاء فاقتلعت الشجرة، فيما ظلت القصبة ثابتة، ولا شك أن هذا يعلمنا الكثير عن أهمية المرونة.