الاستفتاء التركي... و«ورقة الدين»
إردوغان يستند إلى قاعدة جماهيرية صلبة، خصوصاً في أعماق البلاد، كما تتعزز حظوظه التنافسية دائماً بإنجازات اقتصادية وخدمية وتنموية مبهرة تحققت في سنوات حكمه، التي امتدت من 2003 إلى 2014 كرئيس للوزراء.
أمس الأول نشر موقع "تركيا الآن"، الذي يقدم أخبار تركيا باللغة العربية، تقريراً بعنوان "أكاديميون كويتيون: الغرب يخشى أن توسع التعديلات الدستورية دور تركيا في العالم"، وهو التقرير الذي تضمن آراء عدد من أساتذة الجامعات بالكويت، وتحليلهم للموقف الأوروبي المناهض للتعديلات الدستورية والرئيس إردوغان.ينطلق قطاع من العرب المؤيدين للرئيس إردوغان، وتعديلاته الدستورية، في تأييدهم هذا، من اعتقادهم بأن "إردوغان يمثل الإسلام، ويستهدف إعادة أمجاده"، وأن "الغرب يشن معركة ضده تخوفاً من استمراره في مناوءة الهيمنة المسيحية الغربية".تتحدث منابر في الإعلام التركي المؤيد للرئيس وتعديلاته الدستورية عما يُسمى بـ"التدخل الصليبي الجديد"، حيث يُطلق هذا الوصف على التصريحات الأوروبية المعادية للرئيس والداعية إلى التصويت على الاستفتاء بـ"لا".
لذلك، فقد تحدث بعض المعلقين والمحللين عن خطورة تحويل الاستحقاق إلى "استفتاء على دور الإسلام وقيمته" في مقابل "هيمنة المسيحية ونفوذها"؛ وهو أمر يبدو أن حزب العدالة والتنمية يساعد على طرحه واستخدامه.بل إن بعض المرافق الدينية الرسمية في الدولة تدخلت فعلاً في مسار المعركة السياسية، مثلما فعلت هيئة الشؤون الدينية التي حضت على التصويت بـ"نعم"، بل وصفت الدعاية المؤيدة للرئيس بأنها تقع ضمن "الممارسات الإسلامية".في صيف عام 2015، زار إردوغان جاكرتا، في إطار جولة آسيوية، ومن بين التصريحات التي أطلقها خلال تلك الزيارة تصريح قال فيه بالنص: "شاغلنا الأول هو الإسلام".يلعب إردوغان اللعبة العقائدية بانتظام، ولا يمل من التلاعب بمشاعر البسطاء من المسلمين، حين يقدم نفسه لهم بوصفه مبعوثاً "لنصرة الإسلام وإعادة أمجاده"، من دون أن يفسر التناقضات الكبيرة التي تنشأ بين الإدارة العلمانية للدولة، والتي تحققت النجاحات الكبيرة بفضلها، وبين الخطاب العقائدي الذي يتبناه، والذي يبدو أنه منحه الكثير من أصوات الجمهور، وخصوصاً هؤلاء الذين يعيشون في أسفل السلم الاجتماعي، في محافظات البلاد البعيدة.تقول وكالات الأنباء العالمية إن شوارع المدن التركية تحفل في هذه الأثناء بالكثير من اللوحات الإعلانية التي تغطي البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتحمل كلمة "إيفيت" التركية، أي "نعم" بالعربية، فضلاً عن صورة الرئيس إردوغان، أو رئيس وزرائه بن علي يلدريم، لحض الجمهور على التصويت بالموافقة على التعديلات الدستورية، في الاستفتاء المقرر إجراؤه منتصف يوم 16 أبريل الجاري.يستهدف إردوغان، من خلال حملة دعائية وسياسية مكثفة، أن يحصل على موافقة الجمهور على تعديلات دستورية تمنحه سلطات شبه مطلقة، وتحول النظام الذي يحكم البلاد من الصيغة البرلمانية الراهنة إلى صيغة رئاسية، وأن يحول الأمر الواقع الحالي، الذي ينفرد فيه بكل صلاحيات الحكم، إلى وضع دستوري، يمكن من خلاله أن يكون زعيماً بسلطات واسعة، عبر شغل منصب الرئيس حتى عام 2029. خلال الحملة الدعائية التي ينشط فيها إردوغان وأركان حزبه، قام بزيارة إلى إحدى نقاط المعارضة التي تعارض خطته السياسية، وتحدث إلى بعض الموجودين فيها، وحين سأله أحدهم: "لماذا أطلقت اسم السلطان سليم الأول على الجسر الجديد الذي تم إنشاؤه أخيراً؟"، أجاب بقوله: "إن مساحة البلاد في عهد هذا السلطان العظيم كانت 15 مليون كيلو متر مربع، وهذا أمر يجعل من حمل الجسر اسمه شرفاً كبيراً".في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي استهدفت حكم إردوغان، منتصف العام الماضي 2016، شن الرجل حملة استهداف غير مسبوقة على من وصفهم بـ"أعوان الانقلاب"، وهي حملة حولت البلاد إلى "سجن كبير" كما تقول المعارضة وكثير من النقاد والمحللين المستقلين. بعد أيام قليلة من المحاولة الانقلابية، كان إردوغان قد اعتقل أكثر من ستة آلاف عسكري برتب مختلفة، و118 جنرالاً وأدميرالاً في الجيش، وأدرج نحو ثلاثة آلاف قاض ومدع عام على قائمة المطلوبين للاعتقال، وعزل نحو عشرة آلاف من مسؤولي وزارة الداخلية، وأقال أكثر من 30 حاكماً إقليمياً، وأكثر من 52 مفتشاً مدنياً من عملهم، كما ألغى رخصة 21 ألف مدرس، وأوقف 15200 من الموظفين في وزارة التعليم عن عملهم، وأوقف نحو 370 موظفاً عن العمل في هيئة الإذاعة والتلفزيون العمومية، كما طالب نحو 1577 عميداً ومسؤولاً بمؤسسات تعليمية عليا بالاستقالة.بسبب خطة التصفية السريعة والمحكمة والواسعة، شكك بعض المحللين في المحاولة الانقلابية، واعتبر كثيرون أنها ربما كانت مدبرة لإحكام سيطرة إردوغان على البلاد، والتخلص من خصومه، ودفع الجمهور دفعاً إلى الخوف، الذي يسهل في ظله، أن تتم الموافقة على التعديلات الدستورية.لا توجد أدلة تدعم هذا التحليل، لكن أردوغان استغل المحاولة الانقلابية بالفعل لكي يحرك ذرائع الخوف لدى الجمهور، كما اعتبرها مدخلاً منطقياً لتصفية خصومه السياسيين، واعتماد خطة التحول السياسي، التي تحول البلاد إلى النظام الرئاسي، تحت سلطته وحده.يقتضي الإنصاف القول إن الرئيس إردوغان يستند إلى قاعدة جماهيرية صلبة، خصوصاً في أعماق البلاد، كما تتعزز حظوظه التنافسية دائماً بإنجازات اقتصادية وخدمية وتنموية مبهرة تحققت في سنوات حكمه، التي امتدت من 2003 إلى 2014 كرئيس للوزراء.في تلك السنوات استطاع هذا الرجل أن ينقل تركيا من وضع بائس ومتدهور إلى مكانة رفيعة، عبر خطط تنمية وتحفيز اقتصادي ناجحة وفعالة، جعلت منها واحدة من الدول العشرين الأقوى اقتصاداً في العالم، متمتعة بنمو مطرد ومستقر، وبقدرات سياسية وعسكرية معتبرة.لكن شغفه بالسلطة، ورغبته العارمة في أن يظل حاكماً مطلقاً للبلاد لأقصى فترة ممكنة، تهدد مشروعه وسجله التاريخي، وتضع كل ما أنجزه على المحك.إن التلاعب بورقة الدين في المعركة السياسية الدائرة حول الاستفتاء خطير، وربما تكون له آثار فادحة على مستقبل البلاد.هذا الزعيم الذي يتسم بالبراغماتية الشديدة، والعقائدية المفرطة، والقدرة الواسعة على البطش، والرغبة في التوسع، والولع العارم بالسلطة، يعطينا مثلاً جديداً على صناعة الاستبداد، الذي أخبرنا التاريخ أنه لا يبدد إنجازات الماضي فقط، لكنه، أيضاً، يضع المستقبل في مهب الريح.* كاتب مصري
التلاعب بورقة الدين في المعركة السياسية الدائرة حول الاستفتاء خطير وربما تكون له آثار فادحة على مستقبل البلاد