«سينما السيارات» و «سينما الحمير»!

أثناء زيارتي مسقط رأسي أسوان (البوابة الجنوبية لمصر)، ظلّت السينما محور أحاديث كل من جالسني، وكانت الفرصة سانحة لأبثهم وجعي الدفين بسبب التراجع المخيف في عدد صالات العرض السينمائي، وإذا بأحد الأصدقاء يفاجئني بقوله: «هل تعلم أن أسوان عرفت «سينما الحمير» قبل أن يعرف العالم «سينما السيارات»؟ وكتمت الضحكة. لكنه واصل بجدية بالغة: «كان الأهالي يدخلون السينما في مدينة كوم أمبو التابعة للمحافظة، وهم يمتطون الحمير، بل كان مسموحاً بتدخين الجوزة (الأرجيلة) أثناء مشاهدة الأفلام في «سينما الفوريقة» (هكذا كانوا ينطقون كلمة الفابريكا) التابعة لمصنع السكر». وبينما كان فريد شوقي أو أبو شوقي، كما كانوا يسمونه، هو البطل المفضل بالنسبة إليهم كان غاري كوبر ثم يول براينر وبرت لانكستر نجوم الشباك في ما يتعلق بأبطال الأفلام الغربية!

في تلك الحقبة الزمنية، حسبما أكد لي د. شوقي معروف ابن أسوان والأستاذ في كلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان، عرفت مدينة أسوان، العاصمة، فن السينما من خلال صالتي عرض، الأولى «بدر» وتقع قبلي المدينة، والثانية «أبو شوك» وتقع بحري المدينة. وكانت الدعاية لأفلام الصالتين تتم من خلال عربة «كارو» (عربة رباعية الأرجل مصنوعة من الخشب يجرها حمار أو حصان) مُثبت عليها لوحان من الخشب في شكل هرمي، يتصدر كل منهما ملصق الفيلم، بينما يترجّل المنادي إلى جانب العربة، وهو يحمل جرساً نحاسياً يحركه في الاتجاهات كافة، ليجذب الانتباه إلى ما يقول عن الفيلم المعروض.

الطريف أن الأهالي الذين يقطنون البنايات المجاورة لسينما «بدر» كانوا يستثمرون الطبيعة الجغرافية لهذه السينما الصيفية، وشاشتها التي تعرض الفيلم على الجمهور في مقاعد تم صفها في العراء، ويوجهون الدعوة إلى أقاربهم، وأصدقائهم، للاستمتاع بمشاهدة الفيلم من فوق أسطح البناية. ومع ظهور كلمة النهاية، ومغادرة الجمهور الصالة، كانت ثمة أعداد غفيرة تغادر البنايات المجاورة في مشهد طريف قلما يتكرر في العالم بأسره!

في سياق الطرافة نفسها، كانت صالتا «بدر» و{أبو شوك» تُذيعان على الجمهور، قبل عرض البرنامج الذي يتكون من فيلمين، أحدهما مصري والثاني أجنبي، مقاطع صوتية من الأغاني العاطفية، وبعض أغاني الأفلام، مثل «بساط الريح» للمطرب فريد الأطرش، وعلى عكس المتوقع يبدأ البرنامج بالفيلم الأجنبي ويُختتم بالفيلم المصري، ونظراً إلى أن الدارين صيفيتان فقد كان عرض الفيلمين يبدأ بعد غروب الشمس مباشرة، ويستمر لحفلتين متتاليتين تنتهيان بعد منتصف الليل بساعة تقريباً!

مُقارنة بأسعار اليوم في ما يتعلق بسعر تذكرة دخول صالات العرض السينمائي كانت قيمة التذكرة وقتها تتراوح بين ثلاثة وستة قروش، وكانت القاعات متفاوتة الدرجات، فثمة «لوج وبلكون» (يضم بنواراً للعائلات عبارة عن خمسة مقاعد يفصلها جدار صغير عما حولها) وصالة كبيرة يفصل سور حديدي أو جدار صغير بين درجتيها الثانية والثالثة، التي يُطلق عليها «الترسو»، وتتكون من مقاعد خشبية بعرض القاعة، قيمة تذاكر الجلوس فيها هي الأقل قيمة وكلفة عن غيرها. وفي حين كانت أفلام «الويسترن» أو «الكاوبوي»، كما يسميها جمهور الدرجة الثالثة، هي الأكثر شعبية في «سينما بدر» احتلت الأفلام التي قام ببطولتها بروس لي، أشهر نجم في مجال الفنون القتالية، قائمة الأفلام الأكثر جماهيرية في «سينما أبو شوك»، ثم جاءت الأفلام الهندية، وكان «أبي فوق الشجرة» (1969) بمنزلة الفيلم الأسطورة، إذ كان الجمهور يهتف مع كل قبلة يضعها عبد الحليم حافظ على خد نادية لطفي، «واحد... اتنين»، حتى قيل إنه قبلها مئة قبلة!

مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كان بناء السد العالي في مراحله الأخيرة، والتقارب المصري السوفياتي في أوج ازدهاره، وفي محاولة لتوثيق هذا التعاون شيّد السوفيات رمزاً للصداقة، على هيئة زهرة اللوتس، بالقرب من جسم السد العالي، أكثر ارتفاعاً من برج القاهرة، كذلك بنيت دار للعرض السينمائي حملت اسم «الصداقة» تم تجهيزها بماكينات عرض روسية، وآلت ملكيتها لمحافظة أسوان، التي تؤجرها للقطاع الخاص، وبعدما كانت تُصنف ضمن صالات الدرجة الأولى، التي تعرض فيلماً واحداً، ساءت خدماتها وانهارت، وفي توقيت متزامن مع انهيارها تحولت «سينما بدر» إلى خرابة و{سينما أبو شوك» إلى مخزن للأسمنت!