خالد المعالي في «أعيش خارج ساعتي»... شاعر لا ينزل عن صليب ذاكرته
قليلون هم الّذين يؤمنون بتأثير العنوان وسحره، وبقدرته على أن يكون جزءاً من النصّ، أو مظلّة وارفة تظلّله من رأسه حتّى أخمص قدميه، وهؤلاء القليلون جدّاً، يعرفون كيف يدعونك بشهيّة إلى كتاب لهم من خلال عنوان مضياف تبتسم لك مفرداته القليلة وتعبر منها إلى ساحات النّصوص المنتظرة بشوق قارئها.
«أعيش خارج ساعتي» جديد الشاعر خالد المعالي، عنوان دافئ على جمال وتشويق وجِدّة، يبوح بتعارض خفيف الظلّ ولو أنّه يحتضن ألم الحياة، وجدليّة الخارج والداخل حين يكونان تحت سلطة الوقت، الوقت الذي لا يكترث حتّى لعقارب الساعة التي تعدّه، فكيف يكترث لناس يعبرهم ويعمل جاهداً ليعيدهم إلى التراب سالمين من الحياة.
«أعيش خارج ساعتي» جديد الشاعر خالد المعالي، عنوان دافئ على جمال وتشويق وجِدّة، يبوح بتعارض خفيف الظلّ ولو أنّه يحتضن ألم الحياة، وجدليّة الخارج والداخل حين يكونان تحت سلطة الوقت، الوقت الذي لا يكترث حتّى لعقارب الساعة التي تعدّه، فكيف يكترث لناس يعبرهم ويعمل جاهداً ليعيدهم إلى التراب سالمين من الحياة.
يستهلّ خالد المعالي إبحاره في «أعيش خارج ساعتي» صوب الذكريات التي تنجو من شبكة العيش، غير أنّ للحنين خيطاً خفيّاً، ناعماً، وصلباً، يربط الناس بالناس، حتّى إذا خسروا الأغنية كلاماً يغنّونها لحناً، فكأنّ لحنها يمسي ظلاًّ لكلماتها المهاجرة: «وتريد أن تأخذنا من اليد/ إلى رهج الذكريات التي لم نعد نراها، / الخيط يربطنا إلى العابرين، / ويتركنا نصفّر اللّحن»... والكلمات تسقط من أعالي الصّوت وترتاح على الأكفّ لعلّ نفخة تُنبت لها أجنحة فتطير في الهواء محدِّقة إلى أصحابها العاجزين عن الغناء: «نلمّ الكلمات على راحات أيدينا، / لكي ننفخ فيها، / عسى تطير في الهواء/ ... عسى ترانا»... ويستمرّ المعالي مطارَداً من قطعان الذكريات التي ترعى الظّلال وتتركه فريسة للشمس: «تلاحقنا في المضيق الشائك/ تطرد الظلّ عنّا/ تلفحنا بالهجير»... وبشيء من اليأس يقف الشاعر على رصيف السّأم عارضاً صوته للبيع، بعدما تعب من تكرار اللّحن: «أصواتنا الّتي نطلقها، من يشتريها؟ / سئمنا الكلام/ نهذره في الدروب/ سئمنا اللحن نصفره»...
الوقت الفارغ
ويشكو المعالي حصار الوقت، الوقت الفارغ بعدما وقع من سلّة أيّامه الكثير من شموس وأقمار تعاقبت على إيقاع خيبة لا تهرم ولا تحمل العكّاز: «مضت أيّامه، كان يحسب ساعاتها في الليل، ساهراً يغنّي عند شبّاكه/ بصمت/ ويضحك نفسه لكي ينسى»... وشيئاً فشيئاً تتّضح صورة الفجيعة ومشهد الانكسار الجماعيّ، ليبدو الشاعر حاملاً وجع أمّة وقوم، راثياً أحلام شعب موؤودة في رمل السّراب: «رايات أقوام بلا هدى يحثّون الخطى/ صوب نهر السّراب، / كلابهم يلهث الجوع/ في أفواهها، / كانوا يأتون، / حرابهم تلمع من بعيد، / فيما لحن الفراق يباعدهم، / وأنت يُسيّر حصانك نفسه ببطء ويبدو أنّه يعدو»... ولا شكّ في أنّ المعالي يتمسّك بقاموس، ينقله تحت إبط قلمه من نصّ إلى آخر، كأنّه يأتمنه على وجع قد لا يثق بكثير من الكلمات ليأتمنها عليه. وها هو يعود إلى عكّازه مواجهاً «رياح السنين»، ويملأ كيسه بالورق الأصفر ليفرغه بعد امتلاء مصغياً إلى صوت آتٍ من حنجرة ماضٍ بعيد: «... فراح بعكّاز يسير/ يلمّ يابس الأوراق/ بكيس/ ثم يفرغه من جديد/ ويبقى مصغياً لصوت يبدو أنّه من الماضي»...
حبر حزين
وفي نصّ «ضيّعت الرؤى كلّها» يعلن الشاعر حبره الحزين الطاعن في السّواد ويؤرّخ إفلاسه الكبير في مدن الحلم الميت، فتسكنه الحيرة ولا يعود يعرف الانسحاب من دائرة الهزيمة، سائراً تحت راية منكّسة، يعدّ الدّود في صدر رمّانته ويقف رجلاً من كآبة أمام دمه الحامض وفي يده حكمة سترجع إلى أعماقه إذ لا أحد ينتبه إليها في سوق الدنيا: «أرفع الراية المنكّسة، / غير أنّها تميل من جديد/ رمّانتي أكل الدّود قلبها، / ودمي يسيل حامضاً/ لمن، إذن، أعطي حكمتي؟».وكلّما رمى المعالي حصاةً في بحيرة حزنه حملت كلّ دائرة منها معنى من معاني الخيبة وتبنّته. وتتّسع الدوائر ليسير الشاعر ميتاً يحمل تابوته، ويغادر موته بعد حين، على عطش، لأجل جرعة ماء وكسرة حلم: «كان يسير حاملاً تابوته مثلهم/ ... لكنّه سرعان ما يصحو، فيجرع ماءً/ ليعود إلى أحلامه»... وليست العودة من الموت سوى انتماء إلى موت آخر ينتهي بموت يليه... وكيف لا؟! والمعالي لا يجد ليلاً يتّسع لإغفاءة، أو شبّاكاً يليق بالانتحار، أو نهاراً لينثر الخطى على رصيفه، أو يداً تمتدّ وعلى كفّها حياة، فإنّ كلّ شيء مُكَفّن بظلاله، ليغدو الجسد مقبرة للرّوح التي يحملها: «لم أعد أجد ليلاً لأنام/ شبّاكاً لأسقط منه، / نهاراً لأسير في خوفه/ يدي ممدودة، / روحي تنام حقّاً في قبرها».وإذا كان من صليب متكرّر بلا انقطاع، للشاعر، فهو الذّكريات. ويبدو كأنّه مصلوب على ذاكرته، ويحدّق إلى الماضي بعينين واسعتين جدّاً وإلى المستقبل بعينين مغمضتين، مستقيلتين من الضّوء. فالزّمن الأوّل هو الحاضر أبداً، بكلّ ما في الطفولة من «ذئاب» وليست الأيّام الماضية سوى يد تدلّه على اليأس الباني أعشاشه تحت التراب: «لكنّها أيّامه الأولى، / تجالسه في الفلاة، / ترشده إلى مكامن اليأس تحت التراب، / ثم تبعده عن الذّكرى»... ولا يقوى المعالي على خيانة أمسه، أو طرده من محبرته، فهو التمثال المحطّم الّذي لا خلاص منه، ولو أنّ الرؤى تقاعدت وصارت أسيرة كيسها: «الماضي المحطّم كتمثال أمامنا،/ الرؤى وقد جُمِعَت بكيس»... وهكذا يغدو الصدى سيفاً يُغمَد في الروح حاملاً لمعان الصرخة الأولى: «كلّ صرخة أيقظها ألم السنوات تعود كالصّدى من جديد»...على امتداد «أعيش خارج ساعتي» أدّى الشاعر خالد المعالي نصّاً هادئاً، يغلّف بجماليّته ألماً وجوديّاً يكرّس الماضي سيّداً على الزّمن، ويجعل الغد محكوماً بتقدمة دموعه على مذبح الأمس.«معلق في الهواء»
في نصّ «معلَّق في الهواء»، تتجدّد صور فجيعة المعالي، على عادتها في الديوان، فهو أعزل، بلا عصا تتلمّس الطريق، أو تردّ الذئاب، وأمسى يجرّ قدَميْن من المفترض أن تحملاه لا أن يحملهما: «عصا السّدر نسيتها، / ولم أعد أسمع الكلاب من بعيد تنبح، / أجرّ خطوتي التي أخذت تثقل»... وفي ساحة الخوف من الذكريات يمتطي الشاعر الهواء، حين تتحضّر الذئاب لافتراسه وتستأسد أفاعي المياه: «الذئاب تكشّر عن أنيابها/ والأفاعي فوق المياه تصلّ»... وكيف الهروب طالما الجدران ترتفع في الأمام والوراء وبينها تتناسل ظلمة لانهائيّة: «الحائط الكبير أمامي/ الحائط الكبير ورائي/ والأنوار ظلمة». ويصل المعالي إلى نصّه الأخير «وتاه فيما كان إلى بيته يعود»، معلناً آخر الهزائم، مضرَّجاً بالأصداء: «بين الأصداء تاه»، واقفاً تحت غيوم مكسّرة، لتنزف روحه ضباباً أخيراً: «كلّما تكسّرت الغيوم، / وأمطرت روحه ضباباً، / حنيناً بعيد الغور»... وتحت سماء الفجيعة تموت الطريق وتتوارى في الضّياع: «سكّته أخذت تختفي/ تلاشت آثارها/ وتاه فيما كان إلى بيته يعود».