"إن البلاد بحاجة إلى رسم مسار جديد توجد به محركات اقتصادية لخلق المزيد من الدخل، من خارج قطاع النفط، كما نحتاج إلى بناء قاعدة قوية وواسعة من الصادرات غير النفطية، إلى جانب إعادة النظر لتطوير مستقبل التنمية الصناعية في البلاد، إذ إننا لا نستطيع العيش على عوائد الصندوق السيادي الذي يستثمر بشكل رئيسي الثروة النفطية، خصوصاً في ظل السحب من هذا الصندوق، أخيراً، لتمويل احتياجات الميزانية".

ما ورد أعلاه لم يكن لمسؤول مالي كويتي أو خليجي، بل كان جزءاً من حديث رئيسة وزراء النرويج، إرنا سولبرغ، التي تمتلك بلادها أكبر صندوق سيادي في العالم، وقيمته الاجمالية نحو 922.1 مليار دولار، تشكل 12.3 في المئة من إجمالي أصول الصناديق السيادية في العالم، وأنشئ قبل 22 عاماً فقط بغرض الحفاظ على نصيب الأجيال القادمة من الثروة النفطية، متجاوزاً في أدائه الرسمي المعلن العديدَ من صناديق الثروة السيادية الخليجية، خصوصاً تلك التي لا تعلن عن طبيعة استثماراتها، ومنها الصندوق الكويتي الذي تأسس عام 1952... كما يتصدر الصندوق النرويجي مؤشر لينابورغ مادويل للشفافية، الذي يقيس شفافية الصناديق السيادية العالمية، إذ يحصل على كامل النقاط العشر على سلم المؤشر.

Ad

مبعث القلق

ومبعث قلق رئيسة الوزراء النرويجية يرجع إلى أنها سحبت، للمرة الأولى، من صندوقها الاحتياطي السيادي مبالغ أكثر من التوقعات الأولية، بهدف إعادة التوازن لميزانيتها التي تضررت من انخفاض أسعار النفط، إذ سحبت 715 مليون يورو، في وقت كانت التوقعات تشير الى ان سقف السحب لن يتجاوز 500 مليون يورو، أي أن السحب تجاوز المقدر بـ 215 مليون يورو فقط.

ومعلوم أن الميزانية النرويجية تقليدياً لا تشمل عائدات النفط التي تودع بالكامل في الصندوق السيادي بشكل مستمر ومباشر، كما لا يسمح للدولة بسحب أكثر من 4 في المئة منها لتحقيق توازن بحساباتها، في حال العجز.

بالطبع، تصريحات رئيسة وزراء النرويج ومخاوفها من مستقبل صندوق بلادها السيادي، في ظل مصاعب الاقتصاد والقلق من اسواق النفط في دولة تعتبر أكثر دول العالم حصافة في ادارة ثرواتها وميزانياتها، هو أقرب إلى "النكتة "، عندما نقارنها بوضع الكويت كدولة ترتكز بنسبة تتجاوز 90 في المئة من ايراداتها على مبيعات النفط، ولا تجد أي حرج من اقتطاع نحو 6 مليارات دينار من الاحتياطي العام لتمويل صفقات تسلح، حتى في زمن العجز المالي، وتتشارك في مستوى الشفافية مع صناديق دول على مستوى كازاخستان وتيمور الشرقية وبوتسوانا.

مخاوف محلية

عندما تنتقل دولة كالكويت من تخمة الفوائض إلى واقع العجز المالي وتحديات الدين السيادي، بسبب بسيط كتراجع اسعار النفط، فإن الحديث عن المخاوف أو القلق موجود لكنه إنشائي ولا يعبر عن سياسات حقيقية وعامة، لأن الوضع الاقتصادي المحلي يتم التعامل معه بقدر عالٍ من السطحية، وهو ما بينته وثيقة الاصلاح الاقتصادي والمالي التي قدمتها الحكومة في مارس 2016، وهي خطة ركيكة؛ من جهة أنها لا تنسجم مع واقع الاقتصاد الكويتي، خصوصاً في المبالغة في الرهان على سياسات الخصخصة والضريبة، فضلاً عن التغاضي عن الآثار الناتجة عن التضخم أو رفع أسعار السلع والخدمات، وعدم حياديتها في تحميل شرائح المجتمع آثار العجز في الميزانية وحصص تمويلها، بغض النظر عن مستوى الدخل او حجم المشاركة في اتخاذ القرار.

إضافة إلى أن هذه الخطة التي تعتبر عنصر ارتكاز للدولة في مواجهة أسعار النفط يتم التعاطي معها بشكل مرتبك من ناحية الإعلان الحكومي تارة أنها تفتقد مؤشرات وآليات تمكن من تقييم الإجراءات ومتابعة معدلات الإنجاز، أو اعلان اصدار نسخ متتالية، في حين لم يقيم أحد اعمال او نتائج الاصدار الأول من الخطة، إن صح التعبير، فضلا عن صدور خطة اخرى على هامش خطة الإصلاح الاقتصادي والمالي تتمثل في مشروع رؤية الكويت 2035، مما يطرح اكثر من علامة استفهام حول جدية الخطط الحكومية أو جودتها.

حصافة الإدارة

إذا كانت رئيسة وزراء دولة كالنرويج تعتبر مضرب المثل عالميا في حصافة الإدارة المالية والاقتصادية، قلقةً على مستقبل بلادها؛ فإننا في الكويت يجب ان يكون لدينا اضعاف هذا القلق، في وقت يتضخم فيه الانفاق غير الرشيد من خارج الميزانية على صفقات التسلح، أو من داخلها على الاستخدام السياسي للعلاج في الخارج، وتنحرف فيه المشاريع المرتبطة بالانفاق الاستثماري عن أهدافها في تحقيق العوائد المالية والخدمية للدولة أو توفير فرص العمل التي تؤكد أرقامٌ حكوميةٌ أنها بصدد التضاعف من 20 ألف طلب عمل سنويا الى اعلى من 70 ألفاً سنوياً، خلال سنوات قليلة، مع ما سيرافقها من نمو وضغط على خدمات الصحة والإسكان والتعليم وغيرها، في ظل اعتماد مُبالغ فيه على سلعة النفط التي يبدو سوقها في اكثر مراحل الضعف والهشاشة منذ عقود، فضلا عن محدودية المعلومات عن الصندوق السيادي وعوائده وآليات استثماره وتوزيعاتها القطاعية والجغرافية.

في النرويج، إذا وضعت الحكومة خطة للاقتصاد فإن فرص التنفيذ على الأرجح ستكون عالية، أما في الكويت فإن وضع خطة من هذا النوع، على الأرجح، سيعني اكتشاف عيوبها بعد فترة وجيزة والتراجع عنها، أو طرح خطة اخرى متشابكة مع الأولى، بحيث لا تُعرف اي منهما هي المشروع الاساسي للدولة!