«الاستقالة في جيبي»!
عرفت الدهشة طريقها إلى وجهي، وطاردتني أكثر من علامة استفهام، عقب تقديم الأستاذ الكبير والناقد سمير فريد استقالته من منصبه كرئيس لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في الدورة السادسة والثلاثين (9 – 18 نوفمبر 2014)، وتشبثه بها، رغم محاولات كثيرة بذلت لثنيه عن ذلك، وإقناعه بالتراجع عنها، سواء من وزير الثقافة آنذاك د. جابر عصفور، أو المحيطين به، والمقربين منه وإليه.في محاولة مني لتفسير ما جرى أرجعت موقفه إلى طبيعته الشخصية التي تكره «الروتين»، الذي حاصره بقوة، والصراعات والصغائر التي ضيقت الخناق عليه، كونه أرسى مبدأ «الشفافية»، الذي لم يتوقف عن الدعوة إليه طوال حياته!أتصور أن إعلان «فريد»، للمرة الأولى في تاريخ المهرجانات المصرية، الموازنة كاملة، والوثائق والعقود بحذافيرها، في ما أطلق عليه «دليل المهرجان»، الذي اشتمل على شرح تفصيلي وواف لما يمكن تسميته «المسمى الوظيفي» job description والأجور التي يتحصل عليها كل فرد يتعامل مع المهرجان، كان سبباً في إثارة حفيظة البعض، ممن أدمن العمل في {الظلام}، ويخشى أن تُصبح {الشفافية} عدوى، وسبباً في ملاحقة الفاسدين، وهم كثُر!
كان بمقدور سمير فريد أن يواجه صغار النفوس، ويضعهم في الحجم الحقيقي الذي يليق بهم، لكنه تأذى كثيراً، وأصابه جرحٌ عميقٌ، عندما وصل الاتهام إلى حد التشكيك في ذمته المالية، وموافقة وزير الثقافة على تشكيل “لجنة تحقيق”، ولحظتها رفض أن يغفر ويُسامح، وغادر موقعه من دون رجعة، فالسمعة الطيبة، والذمة النظيفة، هما كل ما حرص عليه طوال حياته، وكم ضحى بمناصب رسمية، ومواقع حيوية، حرصاً منه على حريته، واستقلاليته، ولأنه أبى أن يكون عبداً لوظيفة، مهما كانت مغرية وبراقة.المتأمل للسيرة الذاتية للناقد الكبير سمير فريد يكتشف أنه إحد أكثر الشخصيات التي امتلكت قرارها، وأكثرها تقديماً للاستقالة، بما يعني أن استقالته من رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لم تكن ظرفاً طارئاً، فقد فعلها سابقاً عندما استقال من منصبه كمدير لمهرجان القاهرة الدولي لأفلام الأطفال (1998) بعد دورة واحدة، واستقال من منصبه كمدير لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (1995) بعد دورة واحدة، ولم يستمر في تدريس مادة السينما المعاصرة لطلبة الدراسات العليا في المعهد العالي للسينما (1991) سوى عامين، وتوقف عن تدريس مادة الفكر المعاصر في كلية الإعلام جامعة القاهرة (1980) بعد سنة، واستقال بعد سنة أيضاً من عمله كمستشار فني لصندوق التنمية الثقافية عام 1991، وهو ما فعله أيضاً أثناء عضويته في المكتب الفني لوزير الثقافة 1989، وأثناء عمله كمدير لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (1985) عندما استقال بعد دورة واحدة، بينما انتهت عضويته في لجنة الإنتاج بالمؤسسة العامة للسينما (1970)، لجنة القراءة بالمؤسسة نفسها (1971)، لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة (1980) بالاستقالة بعد أشهر قليلة. بل إنه كرر الأمر نفسه في المشاريع الثقافية التي كان يُصدرها أو يُشرف عليها، كما فعل عندما عكف على إصدار ثلاث مجلات سينمائية (1969) لم يصدر من أي منها أكثر من عددين، ولم تستمر مجلة «السينما والتاريخ» الفصلية (1992)، التي أصدرها على نفقته الخاصة، أكثر من سنتين!«الاستقالة ما زالت في جيبي» كانت شعار الناقد سمير فريد عندما قادته الأقدار إلى التعاون مع المنتج حسين القلا، حيث عمل كمستشار فني للشركة العالمية للتلفزيون والسينما عام 1983 واستقال عام 1985، أي بعد 30 شهراً، وهي قصة يرويها للكاتب الصحافي وائل عبد الفتاح في كتاب «مغامرة النقد» قائلاً: «عرفني إليه يوسف شاهين، ووجدت أن مشروعه في السينما يحقق أحلامي للسينما في مصر، لكنني قبلت نصف العرض فقط، إذ كان كل العاملين في الشركة يوقعون عقوداً لمدة عشر سنوات، لكنني صغت عقدي بنفسي، واستبعدت منه هذا البند، وكتبت بدلاً منه أنه في حال الخلاف يبلغ أي من الطرفين بأنه سيترك العمل قبل شهر من دون تعويض»!بالورقة والقلم، والوقائع والأرقام، كان سمير فريد صاحب أكبر دخل شهري بين أقرانه، في الستينيات، إذ كان يتحصل على 60 جنيهاً، عبارة عن راتب شهري يُقدر بـ 17 جنيهاً، وأجر يتراوح بين خمسة وعشرة جنيهات عن كل مقال يكتبه في مجلة مصرية أو عربية، بالإضافة إلى الكتب التي ينشرها، ومن ثم استقل مادياً، واكتفى ذاتياً، وكانت «الاستقالة» بمثابة السلاح الذي يُحافظ به على زهده، ويُجاهد به النفس الَأَمَّارَة بِالسُّوءِ!