ثقافة الهروب
نحن نعيش ثقافة التخلي بمجرد مواجهتنا بعض المصاعب والتحديات الحياتية، التي هي أمر طبيعي في الأصل، فحين تواجه بعض الصعوبات في العمل قد يهتف بعض أصحابك ناصحين: "اترك الوظيفة"، وكذلك الحال في الصداقات ومختلف العلاقات الإنسانية.
في زمن الثقافة الاستهلاكية صار يستهلك بعضنا بعضاً، وأصبحت العلاقات الإنسانية هشة ورخيصة وسهلة الانكسار، فسياسة التبديل والإرجاع أصبحت أمراً مقبولاً متى ما وجدنا صفة لا تروق لنا في شخص ما وأسميناها "عيوباً"، وفي عصر "اللايكات" و"الأنفولو"، يتم التهرب من الخلافات وسوء التفاهم بدلاً من المواجهة وتطهير الأجواء بالنقاش الحضاري. نحرق الجسور ونلغي الأشخاص من حيواتنا بمجرد "كبسة زر"، فهنالك دائماً بدائل لا حصر لها عبر الأثير الإلكتروني، أو ذلك ما يبدو على الأقل للمتصفح الواهم، فعالمنا غريب، يسكنه ملايين الناس، ولكن قلة هم من يعتمد عليهم، والكثير منا يشعر بالوحدة في هذا العالم الرقمي الزائف.
لم تعد ثقافة الترميم والمداواة دارجة كما سبق، فنحن نعيش ثقافة التخلي بمجرد مواجهتنا بعض المصاعب والتحديات الحياتية، التي هي أمر طبيعي في الأصل، فحين تواجه بعض الصعوبات في العمل قد يهتف بعض أصحابك ناصحين: "اترك الوظيفة"! ومتى ما واجهتك بعض المشاكل الزوجية قد تسمع صياح واعظ: "الطلاق هو الحل!"، وكذلك هو الأمر في الصداقات ومختلف العلاقات الإنسانية. نسينا قيمة الالتزام، وفقدنا صبرنا في عصر السرعة اللحظية، وزادت سهولة اختناقنا تجاه أي شكل من أشكال الالتزامات! ونسينا كذلك أن تلك التحديات هي ما يجعلنا أكثر نضجاً وحكمة في التعامل مع الذات والآخرين، فهي تلك الحرارة السحرية التي تحيل الرصاص في نفوسنا ذهباً، فكيف سننمو ونتطور إذا استمر هروبنا كلما اعترضت طريقنا بعض العقبات؟لنستبدل الترك بتفهم الآخر واستشعار آلامه، فنغدو بذلك أكثر قرباً منه، ولنعامل البشر على أنهم أشخاص لهم احتياجاتهم وتجاربهم الخاصة التي تلون منظورهم، فهم ليسوا مجرد أرقام أو وسائل لغايات أخرى... فالإنسان غاية في حد ذاته، كما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لنكن سنداً لأحبابنا في عالم وحيد ومتقلب كثير المتغيرات، ولنكن أهلاً للثقة في زمن زاد خذلانه.