يوم الأحد الدامي
كان يوم الأحد الماضي يوما داميا في مصر مهد الحضارات في العالم، تخضبت فيه أرضها بدماء زكية، حولت في مصر أفراح الأقباط بأعيادهم الدينية إلى مآتم، وحولت القداس الذي كان البابا تاوضروس الثاني يقيمه في الكنيسة المرقصية بالإسكندرية، إلى هلع وجزع وحزن عندما تلقى البابا نبأ الجريمة النكراء التي وقعت في كنيسة مار جرجس بطنطا، والتي راح ضحيتها العشرات، على يد انتحاري فجر نفسه داخل الكنيسة.وقبل أن ينهي البابا قداسه كان انتحاري آخر يفجر نفسه أمام الكنيسة المرقصية ذاتها، بعد أن كشفت البوابة الإلكترونية أمره أثناء دخوله الكنيسة قاصدا البابا تاوضروس، وليختلط دم المسلم بدم القبطي في هاتين الجريمتين البشعتين.وقد قدم الأقباط فيهما شهداء جدداً يضافون إلى قائمة شهدائهم عبر التاريخ منذ سنوات الاضطهاد على يد حاكم مصر الروماني أوكتافيوس، التي كانت مصر في عهده شونة الغلال لروما.ولكن ظل أقباط مصر على ولائهم الوطني لمصر، الأرض الطيبة، ومهد الآباء والأجداد والحضارات ومهبط الأديان منذ بدء الخليقة.وحملت قلوب المصريين قبل أيديهم نعوش أقباطهم ومسلميهم، شهداء الجريمتين البشعتين، الكل محزون وموجوع وجازع ونادب وباك، إلا نفر قليل من ضحايا الفكر المتطرف الذين يضمهم ما يسمى تنظيم "داعش"، الذي أعلن مسؤوليته عن الجريمتين، فرحا ومهللا بهذا النصر المؤزر الذي حققه بهما، وهو يقتل في العراق وسورية وليبيا ومصر واليمن كل من يقف أمام حلمه الذي زرعه في عقول شبابه، بإعادة دولة الخلافة الإسلامية لتطبق شرع الله، كما فرحت معه وهللت له جماعات التكفير الأخرى.إعادة العمل بقانون الطوارئوكالعادة تصدر القرارات وتشكل مجالس ولجان وتعدل القوانين لتشديد العقوبات والتخفيف من الإجراءات، التي قد تقيد رجال الأمن في القبض والحبس والتفتيش ليدفع الشعب وحده ثمن هذه الجرائم بالتضييق على الحريات وعلى الأخص حرية الرأي وحق النقد، وهو ما حدث فور وقوع الجريمتين البشعتين، بإعادة العمل بقانون الطوارئ، وإعلان حالة الطوارئ ثلاثة أشهر، وقد صدر في أول يوم فيها قرار بمصادرة صحيفة "البوابة" اليومية لأنها نشرت في صدر صفحتها الأولى نقدا للجهات الأمنية بأن هناك تقصيرا أمنيا يستوجب المحاسبة، وتغيير الاستراتيجية الأمنية المتبعة في مواجهة الإرهاب.ومن المعروف أن هذه الصحيفة يتولى رئاستها عمرو عبدالرحيم، صاحب البرنامج الشهير "الصندوق الأسود" والمقرب من الأجهزة الأمنية، وهو نائب في مجلس النواب الحالي.وفترة الأشهر الثلاثة المحددة لحالة الطوارئ سيتم تمديدها بطبيعة الحال لأن الحرب على الإرهاب حرب طويلة، وقد ظل قانون الطوارئ يجدد سنويا منذ عام 1958 حتى قامت ثورة 25 يناير.... ويدفع الشعب الثمن دائمافالشعب الذي يدفع ثمن الإرهاب غاليا الآن من قوته وحرياته هو الذي سيدفع ثمن هاتين الجريمتين من حرياته، وإننا نسير في الطريق الذي يريده لنا "داعش" والجماعات الإرهابية الأخرى، وهو حماية الأجهزة الأمنية من المساءلة عن أي تصرف خاطئ أو إجراء تعسفي قد تم تحت ذريعة الإرهاب.فالتاريخ يعيد نفسه، ومصرع خالد سعيد على يد بعض أفراد الأمن، ومحاولة الأجهزة الأمنية إخفاء الحقائق حول هذه الجريمة، كانت أحد الأسباب التي فجرت انتفاضة 25 يناير؛ لتتحول إلى ثورة كان أول شعار رفعته "عيش.. عدالة.. حرية".وكنت قد كتبت في مقال الأحد الماضي إن حماية العدالة هي جزء من أهداف الثورة، حتى لو لم يبق منها سواها، وحتى إن بدت تضييقا على الحريات لمواجهة الإرهاب، وإن تحطمت آمال الفقراء في وفاء الثورة بحاجاتهم الأساسية على صخرة الإرهاب وتراجع السياحة، فتبقى حماية العدالة هي حصاد دماء الشهداء التي روت أرض مصر وترابها في ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر، وإذا كانت حماية العدالة هي الهدف الوحيد الذي حققته الثورة فإنها تكون قد حققت بذلك إنجازا، سيسجله التاريخ لها، ويظل القضاء الطبيعي لا القضاء الاستثنائي هو رمانة الميزان في هذا الحصاد... فهل لفظت ثورة الربيع العربي أنفاسها الأخيرة على صخرة الإرهاب؟المواجهة الحقيقية في هذه المعركةنحن في خضم معركة لا نعرف أعداءنا فيها، هم أشباح يظهرون فجأة، ويرتكبون جرائمهم البشعة في وضح النهار، ثم يختفون تحت أنقاض الدمار الذي أحدثوه، دون أن يتركوا أثرا لشركائهم في التخطيط والتدبير والتحريض والاتفاق والمساعدة، أو يتركوا أثرا لمن شاركوا في هذه الجرائم الإرهابية التي يرتكبها انتحاريون، سواء بالاتفاق أو التخطيط أو التدريب أو المساعدة، ووعدهم بجنة عرضها السموات والأرض بعد تفجير أنفسهم وإزهاق أكبر عدد من الأرواح.نحن في أتون حرب، سلاحها آلة بشرية، كان قبل ارتكاب جريمته النكراء، إنسانا سويا في الأغلب الأعم من هذه الجرائم لا تجاوز نقائصه العضوية والنفسية المتوسط العام لنقائص البشر، فهو يعيش بين ظهرانينا، ولا يلحظ عليه أحد شيئا، ولكن الفكر الجهادي قد ملك عليه كل حواسه، فهو لا يرى إلا بأعين من بشروه بجنة عرضها السموات والأرض ولا يسمح إلا بأدائهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا في ضوء حكمهم على المجتمع وتكفيرهم له.فالمواجهة الحقيقة لهذه المعركة هي مواجهة فكرية، للفكر الجهادي لـ"داعش" والتنظيمات الإرهابية الأخرى، الذي يسلب عقول وقلوب الشباب الذين ينضوون تحت لوائهم، لأداء ما يطلقون عليه الفريضة الغائبة، بتفجير أنفسهم لإرهاق أكبر عدد من الأرواح، مخالفين كل الشرائع السماوية التي تدعو إلى حفظ الحياة.وقانون الطوارئ وغيره من حلول أمنية لن تجدي فتيلا في هذه المعركة الفكرية، التي مناخها ووقودها حرية الرأي وحرية الفكر.وللحديث بقية حول هذه المواجهة الفكرية إن كان في العمر بقية.
مقالات
ما قــل ودل: هل لفظت ثورة الربيع العربي أنفاسها الأخيرة على صخرة الإرهاب؟
16-04-2017