بطل من هذا الزمان
قبل عامين كتبتُ في عمودي هذا عن "باليه" تعتمد رواية لـ"فيرجينيا وولف". عمل الباليه كان بعنوان "أعمال فيرجينيا وولف". قبل أيام حضرت عرضاً منقولاً نقلاً حياً عن مسرح البولشوي في موسكو، لباليه تعتمد رواية لا تقل شهرة، هي "بطل من هذا الزمان" للشاعر الروسي ليرمونتوف (1814 - 1841). قُتل إثر مبارزة. الرواية جاءتنا أواخر الستينيات بطبعة "دار التقدم" السوفياتية آنذاك، وترجمة سامي الدروبي. كانت رواية غنائية، في نثرها وأحداثها. بطلها لا يختلف عن أبطال الروايات الوجودية الشائعة يومها، لكن الفارق جوهري، فيما البطل الوجودي الغربي بمسحة كآبته الباردة يتحرك في أفق غائم شبه معتم. كان بيشورين، بطل "ليرمونتوف" يتحرك حاراً في أفق مفتوح بين سهوب ووديان مشمسة. إنه أقرب إلى البطل الرومانتيكي الذي أشاعته شخصية الشاعر الإنكليزي بايرون؛ شاب بلباس الفرسان في الجيش القيصري، سرعان ما يستجيب للمغامرة وللحب، رغم عدم احترام دفين للمرأة، لكنه في كل مرة سرعان ما يدب فيه الملل والسوداوية التي لا تخلو من سخرية. وما من غرابة أن نجد الروائي الفرنسي الوجودي البير كامو يُصدّر كتابه "السقطة" بهذا المقطع من رواية ليرمونتوف: "فاستاء بعضهم استياءً فظيعاً من تصويرنا نموذجاً يبلغ من ابتعاده عن الأخلاق ما بلغه "بطل من هذا الزمان"، وقال آخرون في كثير من الرقة والرهافة، لا شك أن المؤلف رسم صورة نفسه، وصورة من يعرف من الناس. إن "بطل من هذا الزمان"، أيها السادة، لهو صورة حقاً، لكنه ليس صورة رجل واحد. إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله، وقد بلغت كمال التفتح".
حجزت مقعداً عبر الإنترنت، ومن الإنترنت أنزلت الرواية وقرأتها قبل المشاهدة. وأخذني الطمع في الاستزادة، فرحتُ أفتش عن أفلام وُضعت لها، فعثرت على فيلمين روسيين، لكن المؤسف أنهما متوافران دون ترجمة، إلا جزءاً شاهدته يمتد لـ45 دقيقة. حصيلة استعداد لا بأس بها لمشاهدة عمل الباليه، الذي تقدمه فرقة البولشوي الروسية العريقة. الرواية، وهي عبارة عن يوميات تركها بيشورين العسكري عبر تنقلاته في بلاد القوقاز، تتألف من خمسة فصول لخمس قصص. مصمم الرقص بوسوخوف، ومُعد النص سيريبرينيكوف انتخبا لعملهما ثلاث حكايات أساسية: الأولى "بيلا"، القوقازية المسلمة، التي يقع بيشورين في حبها. يُغوي أخاها المراهق بتوفير فرس أبيض يحلم بامتلاكه، على أن يُهرب إليه أخته. يخطف بيشورين الجميلة بيلا، وفي منفاها الغريب يحاول جاهدا استمالتها. وما إن تفعل أخيراً حتى يبدأ يفقد عاطفةَ حبه. يهجرها إلى مصيرها، وقد فقدت كل أمل في العودة. القصة الثانية "تامان"، وهي مدينة ساحلية على البحر الأسود، يُقيم بيشورين في بيت خرب فيها، يضم امرأة مسنة وصبيا أعمى وفتاة تُدعى أنداين، يكتشف فيما بعد أنهم مهربون. يقع في حب الفتاة طبعاً، لكنها ما إن عرفت باكتشافه، حتى سعت لإغراقه، إلا أنه تخلص بأعجوبة. في حين هربت هي بزورق إلى مجاهل البحر.القصة الثالثة "الأميرة ماري"، التي تزور مع أمها منتجعاً للمياه المعدنية. يلتقيها هناك بيشورين، كما يلتقي صديقاً قديماً هو الجندي غراشنتسكي، الذي يقع في حب الأميرة، وهو حب من طرف واحد. ولكي يبدد ملله، يسعى بيشورين إلى إيهام الأميرة بحبه، وفي الوقت نفسه إلى التنكيل بعواطف صديقه العاشق، الأمر الذي يقود إلى المبارزة، حيث يفقد البائس غراشنتسكي حياته. حبكات شائكة ما كانت، في ظني، طيعة للرقص. لكن المَشاهد على المسرح وفرت لي قناعةً مختلفة. فالتعبير الذي تقدمه حركات الأجساد ككل، والأجساد كأعضاء، وافية إذا ما لاقت مصمماً لها بارعاً. ومبدعو البولشوي في فن الباليه معززون بتاريخ عريق. ويكفي أن تتابع استجابة الموسيقي تشايكوفسكي في أعماله "كسارة البندق"، "بحيرة البجع"، "الحسناء النائمة"، وسترافنسكي في أعماله الطليعية "الطائر الناري"، "بيتروشكا"، "شعائر الربيع"... أو الفرقة الروسية للبالية التي أسسها سيرغي دياغليف.